بعد موت الأمل: حين يصير القلم موطناً للروح المنفية

رانية مرجية
نُشر: 12/07/25 11:03

مات أملي في لحظة لم يُعلن فيها العالم الحداد، ولم تنكس فيها الأرواح أعلامها، لكنني وحدي كنت أرتجف تحت سقف الصمت، أدفن حلمي بأصابع باردة، وأتمتم بتراتيل الوداع. لم يكن الأمل مجرد فكرة، كان شريكًا لصيقًا بأنفاسي، دمي، صوتي، وجهتي. وعندما انسحب بصمت، تهاويت... لا في البكاء، بل في انطفاء داخلي لا يرى بالعين المجردة.

اعتزلتُ العالم. لا بمعناه الدرامي، بل بمعناه الأكثر فتكًا: أن تكون بين الناس جسدًا، وروحك تقيم في منفى لا مرئي. تخلّيت عن كل محاولات التكيّف، عن المجاملات، عن التصالح القسري مع واقعٍ لا يُشبهني. كان الانسحاب فعل مقاومة، لا هزيمة. مقاومة لصخب لا يترك مجالاً للتنفس، لعلاقات تستهلكك حتى النخاع، لأملٍ لم يعرف كيف ينجو.

في قلب هذه العزلة، ووسط هذا الفقد البطيء، مددت يدي إلى القلم. لا لأنني أردت أن أكتب، بل لأن الكتابة هي من التقطتني. كنتُ كمن يغرق ويمسك بعودٍ هش، لكنه العود الوحيد القادر على الطفو بي خارج ظلامي. لم يكن القلم أداة، بل خلاصًا، طقسًا يوميًا أتطهّر فيه من آثار العالم.

أكتب لأنني لم أعد أحتمل الكتمان. أكتب لأن في الحروف فسحة للنجاة، لأنني كلما كتبت، شعرت أنني أجمع شظايا نفسي المبعثرة، وأعيد لصقها بخيوط المعنى. الكتابة لا تشفيني تمامًا، لكنها تفتح نافذةً صغيرةً في جدار روحي، يدخل منها شيء من الضوء.

صرت أتعمّد الغوص في كتابات الآخرين... أولئك الذين ينزفون دون مواربة. لم أعد أنجذب للنصوص المصقولة، المحشوة بالحكم الجاهزة. أصبحت أبحث عن الألم العاري، عن الجُمل التي تُرتكب بدم القلب لا بحبر القلم. إنني أنحني احترامًا أمام كاتبٍ يجرؤ أن يقول: "أنا ضعيف، خائف، موجوع" دون أن يختبئ خلف الأقنعة. هذا الصدق المؤلم هو وحده الذي يُحدث أثرًا حقيقيًا.

أدركت أن أعظم الكتابات ليست تلك التي تشرح العالم، بل تلك التي تشرّحه. التي تسير بأقدامٍ حافية فوق جرحك، ثم تربّت على كتفك دون أن تنبس بكلمة. الكلمات التي تصدر من وجعٍ حقيقي، لا تحتاج إلى تزيين، لأنها تصيبك كالسهم: مؤلم، لكنه يوقظك.

اليوم، أكتب لا لأكون كاتبة، بل لأستمر بالعيش. أكتب كي لا يُغتال ما تبقى مني على يد النسيان. في كل نص أكتبه، أضع قلبي عاريًا أمام القارئ، لا أنتظر تصفيقًا، بل تواطؤًا صامتًا: أن يشعر أحدهم بما شعرت، أن يقول لنفسه "أنا أيضًا، حدث لي هذا".

العزلة لم تعد سجني، بل صارت حريتي الخاصة. مكانًا آوي إليه من فوضى لا تتركني أسمع دقات قلبي. والكتابة ليست مجرد فعل، بل فعل وجود. فيها أنجو من الضجيج، من الأسئلة، من الذكريات التي تنهش الذاكرة ليلًا. فيها أخلق عالمًا أستطيع احتماله، عالمًا يمكنني فيه أن أكون بكل ما فيَّ من هشاشة وحنين وخراب.

ربما لم يعد الأمل كما كان. وربما لم يعد لي مكان في العالم الذي كنت أعرفه. لكنني صرت أملك قلمي، وأملك صوتي، وأملك قدرة خارقة على تحويل الألم إلى كلمات تمشي على الورق، كما تمشي الأرواح في برزخها: ببطء، بأملٍ مشوبٍ بالحذر، وبشوقٍ أبدي للانتماء.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة