المطلوب بعد اللحظة الكاشفة: إعادة التأسيس وعودة إلى الجذور 

ساهر غزاوي
نُشر: 24/07/25 22:05

المطلوب بعد اللحظة الكاشفة: إعادة التأسيس وعودة إلى الجذور 

ساهر غزاوي
 استكمالًا للمقال السابق "ماذا بعد اللحظة الكاشفة؟"، الذي شخّص الحالة الراهنة وطرح سؤالًا جوهريًا: هل ما زال المجتمع الفلسطيني في الداخل قادرًا على التحدي والصمود أمام العاصفة؟ الحرب على غزة لم تخلق الأزمة، بل كشفت هشاشة الوضع واتساع دائرة التفكك. نواجه سلسلة عواصف تهدد وجودنا، منها تصاعد الجريمة والعنف المنظم الذي يهدد بنيتنا السياسية والاجتماعية، ومن جهة أخرى، حرب تجويع ممنهجة تُشَن على غزة وسط صمت دولي مريب.
في هذا المشهد، لسنا متفرجين، بل نتحمل المسؤولية بما نفعله أو بما نُغفل. الحياد ليس براءة، بل تواطؤ، وإن لم نستطع الفعل فليكن على الأقل إيقاظ ضميرنا والتذكير بالتناقض المؤلم بين شبعنا وجوعهم، وبين راحتنا وصراخهم. لنفعل ذلك تبرئةً لذمتنا أمام الله وأمام لحظة تاريخية تحمل اختبارًا أخلاقيًا وإنسانيًا وسياسيًا يميز بين من تخلّى ومن رفض الخنوع، وبين من صمت ومن بذل وسعه، مستحضرين قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها). المطلوب ليس كل الأدوات، بل صدق النية والقيام بما نستطيع في زمن صار فيه أقل أشكال الإيمان صوتًا، وأبسط أشكال الكرامة كلمة حق في وجه الموت والصمت.
وإذا كان التشخيص الدقيق شرطًا أوليًا للعلاج، فإن ما يليه لا يقل أهمية، وهو إعادة توجيه البوصلة نحو المصلحة الجمعية، وتحرير الوعي من سطوة الأنا الحزبية والمصالح الفئوية والانشغالات الصغيرة، ليكون المجتمع قادرًا على تجاوز المحنة بأدوات الفهم والعمل والتخطيط.
من هنا، تبرز أهمية العودة إلى البدايات، لا بوصفها مجرد "نوستالجيا"– أي حنينًا عاطفيًا إلى ماضٍ مثالي يتجاوز تعقيدات الواقع وألمه– ولا كهروب رومانسي من الحاضر، بل باعتبارها حاجة وجودية وضرورة سياسية. فالرجوع إلى الجذور هو تجذر واعٍ وبحث عن المعنى، ومحاولة لإعادة تعريف الذات الجماعية: من نحن؟ ماذا نريد؟ إلى أين نتجه؟ وما الذي تبقى من بوصلة الانتماء والثوابت والوجود في هذه الأرض؟
تلك العودة هي لحظة مراجعة صادقة تساعدنا على التحرر من حالة التيه والتخبط، وتمنحنا فرصة لإعادة الإمساك بالخيط الناظم لمسيرتنا، بعيدًا عن التعلق بماضٍ مثالي يصعب استعادته، وبعيدًا عن القبول بواقع مشوّه يُراد له أن يكون قدرًا دائمًا. فهويتنا الجمعية ووعينا السياسي لم يتشكلا في الفراغ، بل في سياقات من الصراع من أجل التحرر والانتماء والصمود، لا من محاولات الاندماج والتكيّف مع نظم تُقصينا وتستوعبنا كغرباء.
لذلك، فإن إعادة تعريف الذات ليست مسألة ثانوية أو ترفًا فكريًا، بل حجر الزاوية لأي مشروع جماعي قادر على الصمود والتأثير. فبدون وضوح في الهوية والرؤية والغاية، لا يمكن بناء بنية سياسية أو اجتماعية أو مجتمعية تنهض بمسؤولية التمثيل والدفاع عن الحقوق.
إن العودة إلى البدايات هي دعوة لإعادة التأسيس، لاستعادة اللغة الأصلية، والبوصلة المشتركة، والقيم التي شكلت مرجعية جامعة وألهمت مسيرتنا في مراحل مفصلية. فمن لا يعرف من هو، لن يعرف إلى أين يتجه، ومن لم يحدد ما يريد، سيُدفع إلى حيث لا يريد. وإذا أدركنا أن التردي السياسي والتنظيمي قد انعكس بعمق على نسيجنا الاجتماعي، وأضعف مؤسساتنا المدنية وشل حركتها، فإننا نكون قد اقتربنا من لبّ الأزمة وبدأنا نعي أن الانهيار ليس حتميًا، بل يمكن مواجهته وإصلاحه.
وهذا الوعي لا يعني البدء من الصفر، بل العودة إلى الجذور، والانطلاق منها في مشروع إعادة بناء وتأهيل منظومات التأطير السياسي والحزبي والاجتماعي والديني. ليس بوصفها أطرًا شكلية أو أسماءً عابرة، بل باعتبارها فضاءات حيوية للانتماء، وأدوات للتثقيف والتنظيم، ووسائط لتحويل القهر إلى وعي، والغضب إلى فعل. فغياب هذه الأطر يُفقد الفرد اتصاله بجماعته، ويتركه عرضة للتهميش أو العزلة أو التطرف، بينما حضورها الفعال يُعيد للمجتمع قدرته على الصمود، ويمنحه روح المبادرة، وإمكانيات المواجهة والتأثير والبناء.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن ما نشهده من واقع العديد من الشباب الذين انجرفوا إلى مستنقع الجريمة والعنف المنظم، وسقطوا ضحايا لمشاريع الإجرام تحت مسميات مثل "الجنود" أو "الرؤوس الكبيرة"، يُبرز بوضوح خطورة غياب الأطر الجامعة. فغالبيتهم الساحقة لم ينخرطوا يومًا في أي إطار تربوي أو ديني أو اجتماعي أو ثقافي، ولم يجدوا من يحتضنهم أو يغرس فيهم الإحساس بالمعنى والمسؤولية، لكن غياب الاحتضان لا يُلغي حقيقة أن كثيرين منهم لم يطلبوه أصلًا، أو رفضوا الانخراط فيه حين أُتيح، إما لانعدام الثقة، أو لشعور بالغربة تجاه تلك الأطر، أو لافتقاد الوعي الكافي بأهميتها ودورها في بناء الذات والمجتمع. وحين غاب الحضور البنّاء، تسللت قوى التخريب لملء الفراغ، فاندثرت قيم الانتماء وحلت محلها الفوضى.
وهنا لا يكفي ارتياد المسجد أو أداء الصلاة للحكم على سلامة المسار، فليس المقصود مظاهر التدين الشكلي، بل التدين الجوهري المتجذر في الضمير والسلوك، والذي يترجم الإيمان إلى التزام أخلاقي ومسؤولية تجاه النفس والمجتمع. وهذا النوع من التدين لا ينشأ تلقائيًا، بل يحتاج إلى بيئة حاضنة، وأطر تربوية ودينية تزرع القيم، وتصقل الشخصية، وتنمي الوعي بالمعنى والواجب والانتماء. 
لهذا، فإن بناء الأطر الجامعة ليس مسألة تنظيمية فحسب، بل ضرورة وجودية. فهي وحدها القادرة على حمل الهمّ العام، وصياغة وعي جماعي، وتحصين المجتمع من الداخل، في مواجهة محاولات الإضعاف والتفكيك والتهميش. 
وفي نهاية المطاف، لا يكمن التحدي الحقيقي في مجرد الصمود أمام العاصفة، بل في قدرتنا على إعادة الإمساك بالبوصلة، واستعادة الثقة بأنفسنا، وبشعبنا، وبمشروعنا الجماعي. هذه اللحظة الكاشفة، موجعة لكنها صادقة، تضعنا أمام فرصة مهمة لإعادة التأسيس من الجذور، والانطلاق من جديد على أرضية أوضح، وهوية أرسخ، وأفق أوسع.
 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة