في زمن تتكاثر فيه الضربات وتقل فيه الأصوات العاقلة، تبرز مبادرة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني كفعل مقاومة أخلاقي، وإنساني، وسياسي من الطراز الأول. إضراب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام، في قلب مدينة يافا، ليس مجرد احتجاج رمزي، بل هو صرخة ضمير جماعي في وجه آلة حرب لا تعرف الرحمة، وفي وجه صمت عالمي يذكرنا بالتواطؤ.
اختيار يافا كموقع للإضراب ليس تفصيلاً عابرًا. هذه المدينة، التي كانت وما زالت شاهدة على النكبة والنكسة والتهجير، تتحول اليوم إلى منصة للكرامة، ومنبر يصدح باسم غزة، التي تُقصف وتُحاصر وتُجَوَّع. في يافا، يلتقي التاريخ بالحاضر، وتلتقي الذاكرة بالمسؤولية. هي المدينة التي لا تزال تنبض بالهوية، وتُصر على أن تكون حاضرة في كل معركة من معارك الكرامة.
الإضراب عن الطعام ليس مجرد وسيلة احتجاج، بل هو أرقى أشكال النضال السلمي، وأكثرها تجردًا من العنف. إنه لغة الجسد حين تعجز الكلمات، وصوت الصمت حين يُخنق الصوت. في لحظة يختلط فيها الدم بالغبار، ويُختزل الإنسان إلى رقم في نشرات الأخبار، ينهض الجسد المضرب ليقول: "أنا أرفض أن أعيش حياة طبيعية، بينما يُقتل أطفال غزة جوعًا وقصفًا".
هذا الفعل لا يحمل سلاحًا، ولا يهدد أحدًا، لكنه يهز الضمير. هو فعل احتجاجي لا يُمارس ضد الآخر، بل يُمارس ضد الظلم ذاته، ضد اللامبالاة، ضد الاعتياد على المأساة. في الإضراب عن الطعام، يتحول الجوع إلى موقف أخلاقي، ويتحول الألم إلى وسيلة تذكير بأن هناك من لا يزال يرى، يشعر، ويتضامن. في هذا الفعل، تتجلى الإنسانية في أنقاها، وتُكسر الحدود بين الجغرافيا والسياسة، بين الهويات والانتماءات، ليبقى الإنسان هو العنوان الوحيد. هو تذكير بأن الكرامة لا تحتاج إلى صراخ، بل إلى صمتٍ نابع من أعماق الجسد، يصرخ في وجه العالم.
وسائل الإعلام العبرية، في غالبيتها، تمارس تجهيلًا ممنهجًا للمجتمع الإسرائيلي، وتُسهم في خلق واقع موازٍ، يخلو من صور الضحايا، ومن أصوات الأمهات الثكالى. في هذا السياق، تأتي المبادرة كفعل مقاومة إعلامية أيضًا، تسعى إلى كسر الحصار المعرفي، وفتح نافذة للوعي داخل مجتمع أُغرق في الرواية الرسمية، حتى بات يستهلك الحرب كأنها خبر عابر، لا مأساة إنسانية.
رغم أن هذه المبادرة تحمل طابعًا رمزيًا قويًا، إلا أن حصرها في أوساط النخب السياسية وحدها يُفقدها الكثير من زخمها وإمكانياتها التأثيرية. هناك حاجة ملحة لتوسيع دائرة المشاركة، لتشمل شرائح أوسع من المجتمع، بدءًا من طلاب الجامعات والمدارس الذين يمثلون جيل المستقبل، مرورًا بالفنانين والمبدعين القادرين على تحويل الألم إلى تعبير بصري ووجداني يصل إلى القلوب، ووصولًا إلى رجال الدين من مختلف الطوائف الذين يمكنهم إضفاء بعد أخلاقي وروحي على هذا الحراك. كما أن إشراك أبناء الشتات الفلسطيني في العالم يضيف بعدًا عالميًا للمبادرة، ويُعيد ربطهم بقضيتهم من خلال فعل تضامني ملموس. ولا يقل أهمية عن ذلك، مدّ الجسور مع قوى يهودية تقدمية مناهضة للحرب، يمكن أن تُسهم في كسر الصورة النمطية، وتُظهر أن هناك أصواتًا داخل المجتمع الإسرائيلي ترفض العنف وتدعو للعدالة. فكل فئة تُضاف إلى هذا الحراك، هي صوت جديد في جوقة الضمير، وخطوة نحو بناء تحالف إنساني عابر للهويات والانتماءات، يعيد الاعتبار لفلسطين كقضية أخلاقية قبل أن تكون مجرد ملف سياسي.
مشاركة الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل في هذه المبادرات السلمية، هي رسالة مزدوجة: أولًا، أن هناك من يرفض الحرب من داخل هذا المجتمع، وثانيًا، أن هناك من يسعى لإعادة الوعي الإنساني إلى شارع تم تخديره إعلاميًا. هذه المبادرات تفتح ثغرة في جدار الصمت، وتُعيد تعريف "الولاء" على أساس القيم، لا على أساس الاصطفاف الأعمى. الإضراب عن الطعام ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لتحريك الرأي العام، ولخلق ضغط أخلاقي على صناع القرار، محليًا ودوليًا. لذلك، من الضروري توثيق هذه المبادرة، ونقلها إلى الإعلام العالمي، وترجمتها إلى لغات متعددة، لتصبح جزءًا من حركة تضامن عالمية مع غزة، ومع كل شعب يُعاني من الظلم.
في زمن الحرب، يصبح الصمت خيانة. وفي زمن المجازر، يصبح الحياد جريمة. ومبادرة الإضراب عن الطعام في يافا ليست مجرد فعل احتجاجي، بل هي تجسيد حي للضمير الفلسطيني، الذي لا يساوم على إنسانيته، ولا يهادن في وجه الظلم، ولا يرضى أن يكون شاهدًا أخرس على مأساة تتكرر كل يوم.
هذا الإضراب هو تذكير بأن الكرامة لا تُقاس بعدد الكلمات، بل بمدى الاستعداد للتضحية. هو فعل يقول للعالم: "نحن هنا، نرى، نشعر، ونتألم"، وهو أيضًا رسالة إلى كل من لا يزال يملك قلبًا نابضًا، أن يتحرك، أن يرفع صوته، وأن يرفض أن يكون جزءًا من جوقة الصمت. لكن الأهم من ذلك، أن هذه المبادرة تفتح الباب أمام تحول نوعي في أدوات النضال، من ردود الفعل إلى المبادرة، من الغضب إلى التنظيم، ومن العزلة إلى بناء التحالفات. إنها دعوة لأن نعيد تعريف دورنا، لا كمجرد متفرجين على المأساة، بل كفاعلين في صياغة الوعي، وتشكيل الرأي العام، وإعادة الاعتبار للإنسان الفلسطيني كقضية أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
في النهاية، قد لا توقف هذه المبادرة الحرب، لكنها بالتأكيد تمنع موت الضمير. وهي بداية الطريق نحو كسر هذا الصمت، وفتح نافذة للكرامة في زمن الحصار.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency