يا أبيض يا أسود

رانية فؤاد مرجية
نُشر: 19/08/25 09:33

في تلك المدينة البعيدة، حيث تُقسَّم الأرواح كما تُقسَّم الطرقات، لم يكن مسموحًا للإنسان أن يرى إلا بلونين: أبيضٌ ناصع يرمز للنقاء المزعوم، أو أسود قاتم يُصنَّف كظلامٍ مطلق. أما باقي الألوان، فكانت تُعَدّ أوهامًا خطيرة تهدّد النظام.

كان الطفل حين يولد يُعلَّق على معصمه سوارٌ يحدّد مصيره: أبيض أو أسود، ومنذ تلك اللحظة، يَحمل داخله قيدًا لا يُكسر. المدارس، البيوت، أماكن العبادة، وحتى المقابر… كلها مفصولة بخطّين متوازيين لا يلتقيان.

غير أن سلمى، الطفلة التي وُلدت بسوار أبيض، حملت سرًّا لم تستطع دفنه. كانت ترى ما لم يُرد لها أن تراه. ففي الصباح، كانت تلمح أن ضوء الشمس ليس أبيض خالصًا، بل يتشعّب في زرقة وذهبيّة وأرجوان. وحين تهطل الأمطار، كانت تتابع القطرات وهي ترسم على التراب لوحةً تنبض بألوان لم تُسمَّ في كتب مدينتها.

سألت والدها يومًا، وهي تحدّق في السماء:

ــ أبي، هل قوس قزح حقيقي؟

نظر إليها بحدة، وقال:

ــ قوس قزح كذبة يا سلمى. من اخترعه أراد إفساد عقول الناس. العالم بسيط: أبيض أو أسود. لا تتركي الخيال يضلّلك.

لكن قلبها لم يعرف الطمأنينة.

تمرّد الطفلة

كبرت سلمى وهي تزداد قناعة أن الحقيقة أوسع من الثنائية القاتلة. كانت ترسم خفيةً على جدران غرفتها: بقعة خضراء كغصن زيتون، خطًا أزرق كالبحر، وهالة حمراء كنبض القلب. وكلما رسمت لونًا جديدًا، شعرت أن روحها تتنفّس.

وذات ليلةٍ حالكة، حين كانت المدينة نائمة على بياضٍ وسواد، خرجت إلى الساحة الكبرى تحمل دلوًا من الألوان التي خبأتها طويلًا. رفعت الدلو وسكبته في قلب الساحة. فجأةً انفجر المكان بفيضٍ من الألوان: الأصفر يجاور البنفسجي، والأزرق يعانق البرتقالي، والأحمر يمتد كاللهب.

ارتجّت المدينة. بعضهم صرخ: “خيانة!”. آخرون ارتجفوا خوفًا. غير أن الأطفال، ببراءتهم، اقتربوا يلمسون الجدار الملوّن، وضحكاتهم تتعالى. كانت تلك اللحظة أول تصدّع في جدار الصمت.

الاضطهاد والولادة

لم تغفر لها المدينة فعلتها. طُردت من مدرستها، وأُدخلت “سجن الألوان الممنوعة”. جُرّدت من سوارها الأبيض، وأُلصق عليها لقب “المتمرّدة”. لكن ما لم يفهمه الحاكمون أن البذور التي نثرتها كانت قد بدأت تنبت.

في الليل، تسللت نساءٌ يخبزن خبزًا بزينةٍ من بذور ملونة. شبابٌ رسموا خطوطًا صغيرة من الأزرق والأخضر على وجوههم. أما الأطفال، فقد صاروا يركضون في الأزقة يبحثون عن بقايا اللون. كان الكبت الطويل قد انفجر، وصار الناس يرون أن بين الأبيض والأسود مساحات رحبة من حياة لم يذوقوها من قبل.

انتصار الألوان

مرت سنوات. انهار السور الفاصل بين الحارتين البيضاء والسوداء، وبدأت المدينة تتحول شيئًا فشيئًا إلى فسيفساء من ألوان. صارت الساحات لوحات، والجدران دفاتر، والوجوه مرايا للحرية.

وحين كبرت سلمى وصارت جدة، جلست ذات مساء تحكي لحفيدتها الصغيرة. سألتها الطفلة بعينين متوهجتين:

ــ جدتي، لماذا يسمّونك “أم الألوان”؟

ابتسمت سلمى، رفعت يديها العجوزتين كأنها تحمل قوس قزح في راحتيها، وقالت:

ــ لأنني رفضتُ أن أختصر العالم في يا أبيضّ يا أسود. آمنتُ أن الحياة كلها ألوان، وأن شجاعة الإنسان تكمن في أن يرى ما بين النهايتين، فيخلق مساحته الحرّة، ويمنح نفسه حقّ أن يكون كلّ الألوان

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة