في أعماق النفس الإنسانية، ثمّة معركة خفيّة تدور كل يوم: معركة بين الرغبة في أن نُسمَع وبين القدرة على أن نُفهَم. كثيرًا ما نرفع أصواتنا، لا لأننا نعشق الصراخ، بل لأننا شعرنا أنّ همساتنا لا تجد من يصغي إليها. وكثيرًا ما نتصرّف بخباثة، لا لأننا نميل للشر، بل لأن البراءة وحدها بدت عاجزة عن حمايتنا في عالمٍ يزدحم بالمخالب.
الفيلسوف نيتشه يقول: "من يصرخ هو من لم يُستمع إليه طويلاً". وهذا الصراخ، في جوهره، ليس إلا إعلانًا يائسًا عن وجودنا. هو صوت الجرح حين لا يجد دواء، هو احتجاج الروح حين يلتفّ الصمت حولها كقيد.
أما الخباثة، فهي الوجه الآخر للصرخة: التفاف العقل حين تُغلق أمامه الطرق المستقيمة. ليست دائمًا شرًا خالصًا، بل شكل من أشكال البقاء. ماكيافيلي لم يُخفِ هذه الحقيقة حين قال: “من أراد النجاة في عالم لا يرحم، عليه أن يتعلّم كيف لا يكون حملاً دائمًا.” وهكذا، يتعلّم الإنسان أحيانًا أن يستعير من الذئب مكره، ليحمي قلبه من أن يُفتَرس.
لكن السؤال الفلسفي الأعمق:
هل نحن حقًا بحاجة إلى الصوت العالي والمكر كي نثبت وجودنا؟
أم أنّ الحاجة الحقيقية هي إلى إعادة تعريف القوة؟
سقراط علّمنا أن القوة ليست في الانتصار على الآخرين بل في الانتصار على الذات. حين نملك أنفسنا، نصبح أحرارًا، حتى لو كُبلت أيدينا. أما غاندي، فقد جعل من الصمت قوة حين قال: "في اللحظة التي نؤمن فيها بقدرتنا على تغيير العالم باللاعنف، نصبح أقوى من أي جيش". فالقوة إذًا ليست في العنف اللفظي ولا في الخباثة، بل في الثبات الأخلاقي الذي لا ينكسر.
ألبير كامو يذهب أبعد من ذلك حين يصف عبثية هذا العالم. في نظره، الصراخ والخداع قد يكونان استجابة طبيعية لعبث الوجود، لكن الإنسان الحقّ هو الذي يحوّل العبث إلى فعلٍ إيجابي، إلى تمرّدٍ يثبت المعنى بدل أن يذوب فيه.
نحن إذن أمام خيارين:
إمّا أن نترك الآخرين يحددون طريقة ردودنا، فنصرخ ونناور وفق ما يفرضونه علينا.
وإمّا أن نعيد تعريف صوتنا، فنختار الحزم الهادئ بدل الصراخ، والحكمة العميقة بدل الخباثة.
إبكتيتوس، الفيلسوف الرواقي، لخّص هذا بقوله: "من يملك نفسه، يملك العالم". إنّ السيطرة على انفعالاتنا ليست ضعفًا، بل ذروة القوة. حين نختار أن يكون صوتنا ثابتًا، واضحًا، هادئًا، نحن لا نقلّل من قوتنا، بل نضاعف أثرها.
إنّ الصوت العالي والخباثة قد يمنحاننا انتصارًا لحظيًا، لكنهما يسلباننا السلام الداخلي. أمّا الحزم الواثق، الهادئ، فهو الذي يمنحنا ما هو أبقى: كرامة لا تُباع، وأثرًا يتردّد حتى بعد أن نصمت.
خاتمة وجدانية
أحيانًا، يا صديقي القارئ، نحن لا نحتاج إلى أن نعلو أكثر، بل أن نهدأ أكثر. لا نحتاج أن نكون أذكى من الآخرين بخباثة، بل أن نكون أصدق مع أنفسنا بصدقٍ يوجع لكنه يحرر. الحياة قصيرة جدًا لنضيعها في الصراخ، ومليئة بما يكفي من الجراح لنزيد عليها مكرًا. فلنترك لصوت أرواحنا المجال، ذاك الصوت الهادئ العميق الذي لا يعلو لكنه يبقى، لا يخدع لكنه يوجّه، لا ينطفئ لكنه يضيء.
في النهاية، من يملك صوته الداخلي، يملك نجاته.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency