هل أوشك "حبل من الناس" على الانقطاع؟

ساهر غزاوي 
نُشر: 11/09/25 23:50,  حُتلن: 23:51

منذ لحظة تأسيسها، لم تكن إسرائيل سوى مشروع استعماري ارتكز على دعم غربي غير محدود شكل لها بمثابة "حبل من الناس" تتشبّث به لضمان بقائها وتفوّقها، وقد تحول هذا الدعم إلى منظومة متكاملة من القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية منحتها شرعية دولية وحمتها من أي مساءلة. هذا الدعم لم ينبع فقط من حسابات جيوسياسية، أي اعتبارات استراتيجية مرتبطة بموقع إسرائيل ودورها في موازين القوى العالمية، بل تأسس أيضًا على تراكمات تاريخية، بدءًا من الدعوات الأوروبية المبكرة لإنشاء وطن قومي لليهود، مرورًا بوعد بلفور، ووصولًا إلى استثمار الصهيونية لسردية المحرقة التي خلقت عقدة ذنب غربية حولت إسرائيل إلى رمز للضحية وجعلت انتقادها يُصنف في خانة "معاداة السامية". كما قدّمت نفسها امتدادًا ثقافيًا للغرب ونموذجًا ديمقراطيًا في منطقة مضطربة، فيما عملت الحركة الصهيونية على تعويض ضعفها العددي بتفوق نوعي في مجالات القانون والإعلام، ما رسخ روايتها لدى الرأي العام الغربي لعقود.
حتى السابع من أكتوبر 2023، تمتعت إسرائيل بحماية دولية مكنتها من مواصلة انتهاكاتها تحت غطاء "حق الدفاع عن النفس"، لكن الحرب التي اندلعت في ذلك اليوم قلبت المعادلة، إذ دفعت صور المجازر دولًا عدة لدعم تحقيقات دولية وتغيير خطابها. ومع مطلع 2024، بدأت المواقف الغربية تتبدل بقرارات مثل وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، وصولًا إلى اتهامها أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب أعمال إبادة محتملة. وبحلول 2025، تصاعدت الضغوط الأوروبية وصولًا إلى بحث تعليق الاتفاقيات التجارية وإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق قادتها، ما كشف عن تآكل صورة إسرائيل كـ"دولة فوق القانون" وبداية مرحلة عزلة سياسية وقانونية غير مسبوقة.
أدّى الدمار الهائل في غزة وسقوط آلاف المدنيين إلى موجة استنكار دولي غير مسبوقة، تجسدت في تقارير أممية وصفت الهجمات الإسرائيلية بانتهاك صارخ للقانون الدولي، ما ساهم في تراجع السردية الإسرائيلية داخل الإعلام الغربي الذي منح مساحة أوسع للرواية الفلسطينية. كما أظهرت استطلاعات الرأي تحولًا لافتًا لدى الشباب الغربي باتجاه التعاطف مع الفلسطينيين، لترسم هذه التحولات صورة جديدة لإسرائيل كـ"دولة مارقة" وتضعها تحت ضغوط سياسية ودبلوماسية متزايدة. وعلى الأرض، اجتاحت عواصم الغرب موجة غير مسبوقة من التضامن الشعبي مع الفلسطينيين، تحوّلت إلى طوفان احتجاجات يطالب بوقف الحرب الإسرائيلية ويكشف عمق الفجوة بين الشارع وحكوماته الداعمة لتل أبيب. ورفعت الجماهير شعارات تندّد بالإبادة الجماعية وسياسات التواطؤ الغربي، مؤكدة أن الشعوب لن تصمت أمام المجازر في غزة، وأن الرأي العام العالمي بدأ يفرض معادلة جديدة في مقاربة الصراع.
وفي قراءة المشهد الراهن، يمكن القول إن إسرائيل تمر بمرحلة تآكل تدريجي للحبل الذي ربطها بالغرب لعقود، فالدعم الرسمي لا يزال قائمًا عسكريًا واقتصاديًا، خاصة من الولايات المتحدة، لكن صور المجازر في غزة والجرائم الموثقة أحدثت شرخًا عميقًا في السردية التي طالما حمتها. بالتوازي، تصاعد الغضب الشعبي في عواصم العالم، ما أضعف غطاء الحكومات وأعاد للأذهان تجربة جنوب أفريقيا حين نجحت حركة مقاومة الأبارتهايد في حشد تضامن عالمي غير مسبوق. فقد بدأت المواجهة هناك بحملات مقاطعة أكاديمية وثقافية ورياضية، تلتها مقاطعات اقتصادية وضغوط دبلوماسية، حتى وجدت حكومة الفصل العنصري نفسها معزولة تمامًا، ما أدى إلى انهيار النظام العنصري وإطلاق مسار العدالة الانتقالية. 
هذا المثال التاريخي يعكس كيف يمكن للرأي العام العالمي وحملات المجتمع المدني أن تُسقط نظامًا مدعومًا من قوى كبرى، رغم الحماية السياسية والعسكرية التي تمتع بها لعقود. واليوم، تتكرر ملامح هذه التجربة مع إسرائيل، إذ اتخذ المسار القانوني منحى غير مسبوق، فقرارات محكمة العدل الدولية ومذكرات المحكمة الجنائية الدولية كسرت قدسية "الدولة فوق القانون" وأرست سابقة تشبه بداية حصار دولي. هذا المشهد، الذي يشهد تظاهرات حاشدة في العواصم الغربية وتصريحات حقوقية قوية تتحدث عن جرائم حرب وإبادة محتملة، يكشف أن عزلة إسرائيل أصبحت مسارًا متدرجًا لكنه يبدو أكثر حتمية مع مرور الوقت، وأن العالم يقترب من لحظة محورية قد تغيّر موازين القوى في المنطقة.
نحن إذن أمام مرحلة تفكك الخيوط، فالحبل مهترئ ويتساقط خيطًا بعد خيط، لكن الانقطاع الكامل لا يزال يتطلب تحولات سياسية أوسع، خصوصًا في مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. نعم، ليس ما قبل السابع من أكتوبر 2023 كما بعده، فقد غيّرت غزة، بدماء أطفالها ونسائها ورجالها، وبصمودها الأسطوري، معادلات السياسة الدولية وأعادت صياغة صورة الصراع. هذه البقعة المحاصرة أثبتت أن إرادة شعب صغير قادرة على هزّ ضمائر العالم وكسر جدار الصمت الذي حمى إسرائيل لعقود، حتى بات الحبل الذي تشبثت به- حبل من الناس- مهترئًا، يوشك أن ينقطع تحت ضغط صور الإبادة والمجازر وصرخات الضحايا. 
العالم لم يعد كما كان، فقد كشفت غزة هشاشة الرواية الإسرائيلية، وأجبرت الإعلام الغربي على إعادة النظر، وأطلقت حركة تضامن شعبية عالمية امتدت من نيويورك إلى لندن وباريس، في مشهد لم يعرفه التاريخ الحديث منذ حملة المقاطعة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. واليوم، مع تصاعد القضايا أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وتزايد الإدانات الشعبية والرسمية، يبدو أن هذا الحبل يتجه نحو الانقطاع الكامل، ليضع إسرائيل أمام عزلة سياسية وأخلاقية غير مسبوقة، ويفتح الباب لمرحلة جديدة قد تغيّر وجه الشرق الأوسط بأسره، وربما العالم بأكمله.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة