يحتلّ الشاعر والمفكر السوري أدونيس (علي أحمد سعيد) مكانة مركزيّة في الفكر العربي المعاصر، ليس فقط بصفته
شاعرًا مجدّدًا في بنيات القصيدة العربيّة، وإنما أيضًا باعتباره ناقدًا للثقافة العربيّة بأبعادها التاريخيّة والاجتماعيّة
والسياسيّة. ومن أبرز محاور نقده تعرّضه المستمر لمسألة الفرد والحاكم، أو جدليّة السلطة والفرد، وما يتفرع عنها من
ثنائيّة المصلحة والفائدة. إذ يرى أدونيس أنّ الثقافة العربيّة، قديمها وحديثها، ظلت محكومةً بمركزيّة السلطة ومصلحة
الحاكم، على حساب تنمية الفرد واستقلاليته، وأنّ هذه المركزيّة كانت السبب الأكبر في غياب الحريّة وتعطيل الفكر
النقدي والإبداعي (أدونيس، 1974، ص. 112).
يتناول أدونيس في كتابه الثابت والمتحول هذه القضيّة من منظور تاريخي، حيث يذهب إلى أن الثقافة العربيّة بُنيت على
أساس الثبات في البنية الدينيّة والسياسيّة، وعلى رفض التحوّل الذي يمثّله الفرد الحرّ. فالثابت هو النصّ والسلطة،
والمتحول هو التجربة الفرديّة المغايرة. ومن هنا كانت كل محاولات التمرّد والتجديد، سواء في التصوف أو الشعر أو
الفكر الفلسفي، ملاحَقة ومقصيّة لأنها تهدد مصلحة السلطة المركزيّة (أدونيس، 1974، ص. 198). الفرد إذن لا
يُعترف به كقيمة مستقلة، بل يُعاد إنتاجه بوصفه تابعًا للجماعة، والجماعة نفسها تُدار بمنطق الحاكم المطلق.
ويُعمّق أدونيس هذا الطرح في كتابه زمن الشعر، حين يربط بين الشعر كحقل للتجريب والحريّة، وبين ضرورة تحرير
الفرد من سلطة المصلحة السلطويّة. فالشعر، بوصفه خطابًا مفتوحًا على المغايرة ، يمثّل النموذج المضاد لثقافة الحاكم
التي تنغلق على مصالحها وفوائدها الضيقة. يؤكد أدونيس أن الثقافة العربيّة الرسميّة استعملت الدين والأيديولوجيا أداةً
للشرعيّة، فأخضعت المؤسسات التعليميّة والثقافيّة لمبدأ المنفعة السلطويّة مما جعلها عاجزة عن إنتاج فرد مستقل أو
عن بلورة مصلحة عامة حقيقيّة (أدونيس، 1989، ص. 56).
هذا النقد يجد صداه في قراءات بعض الباحثين المعاصرين الذين رأوا أن أطروحة أدونيس تتجاوز مجرد التوصيف
التاريخي، لتصبح إدانة مستمرة لبنية السلطة العربيّة الحديثة التي ورثت الذهنيّة القديمة نفسها. فقد كتب خليل أحمد خليل
أن أدونيس يرى في الثقافة العربيّة ثقافة الطاعة حيث تكون المصلحة دوماً للحاكم والجماعة الملتفة حوله، لا للفرد،
وبالتالي يغدو الفكر النقدي عملاً خارجياً أو مشبوهاً (خليل، 1996، ص. 74).
ويذهب أدونيس أبعد من ذلك حين يربط المصلحة السلطويّة بالبنية التأويليّة للدين نفسه. ففي كتابه الكتاب يؤكد أن التأويل
الوحداني للنصوص أسّس لثقافة تُقصي الفرد وتحصر الشرعيّة في صوت واحد. هذا التأويل لم يكن محايدًا، بل كان في
خدمة السلطة، إذ سهّل دمج النص في المشروع السياسي وإخضاعه لمصالح الدولة. وبذلك غاب المجال الذي يمكن أن
يتيح للفرد حريّة السؤال والتأويل والتجربة (أدونيس، 1995، ص. 144).
وتثير هذه الرؤية إشكاليات على مستوى فهم العلاقة بين المصلحة والفائدة. فالمصلحة، كما يحللها أدونيس، ليست دائمًا
تلك التي يُدّعى أنها عامة، بل هي في الغالب مصلحة الحاكم، أي مصلحة بقاء النظام السياسي والاجتماعي. إنها إذن مصلحة ضد المصلحة لأنها لا تمثل إلا فئة ضيقة. أما الفائدة فهي الفضاء الممكن لإعادة تعريف الثقافة بوصفها نشاطًا
مشتركًا يحقق منفعة الجماعة عبر تفعيل دور الفرد، لا عبر إلغائه. وفي هذا السياق يصبح الشعر والفكر النقدي نماذج
بديلة لثقافة المصلحة السلطويّة، لأنها لا تُختزل في النفع الآني بل تنفتح على التحول المستقبلي (أدونيس، 1989، ص.
79).
من هنا يمكن القول إن أدونيس يؤسس لرؤية مزدوجة: من جهة، تشخيص عميق لآليات السلطة العربيّة في تهميش الفرد
وربط الثقافة بالمصلحة الضيقة، ومن جهة ثانية، دعوة إلى تجاوز هذه البنية عبر استعادة دور الفرد بوصفه كائنًا حرًا
ومبدعًا. وهو يرى أن النهضة أو التغيير الحقيقي لن يكون عبر إصلاحات شكليّة تقوم بها السلطة، وإنما عبر إعادة
تأسيس الثقافة على قاعدة الحريّة والنقد والانفتاح، وهو ما يسميه أحيانًا القطيعة الإبداعيّةمع الثوابت القامعة (أدونيس،
1974، ص. 221).
لكن هذه الرؤية ليست بلا ثغرات. فبعض النقاد، مثل محمد بنيس، أشاروا إلى أن خطاب أدونيس يحمل نزعة مثاليّة
عالية، إذ يعوّل على الشعر والفرد المبدع بوصفهما أدوات للتغيير، بينما يتجاهل إلى حد ما الشروط الماديّة والاجتماعيّة
والسياسيّة التي تُكبّل إمكانات الفرد (بنيس، 2002، ص. 61). كما أن نقده للثقافة السلطوية يبقى في الغالب عامًا، دون
تقديم آليات عملية واضحة لبناء مؤسسات مستقلة، وهو ما يجعل أطروحته أقرب إلى البيان الشعري منها إلى البرنامج
السياسي.
ومع ذلك، فإنّ أهميّة المشروع الأدونيسي تكمن في أنه يذكّر باستمرار بأن الثقافة لا يمكن أن تنفصل عن سؤال الحريّة
الفرديّة، وأنّ أي مشروع سياسي عربي يظل محكومًا بالفشل إذا لم يضع الفرد في المركز، بدلاً من أن يظل أسيرًا
لمصلحة الحاكم. ولعلّ هذا ما يفسر قوله إنّ العرب ;لا يزالون يعيشون على ثقافة القرون الوسطى (أدونيس، 1995،
ص. 202)، في إشارة إلى استمرار هيمنة النموذج السلطوي وتهميش التجربة الفرديّة.
إنّ جدليّة الفرد والحاكم، كما يصوغها أدونيس، هي في النهاية جدليّة المصلحة والفائدة. فحين تُختزل المصلحة في
السلطة، يُلغى الفرد وتُصادر إمكاناته، وحين تتحول الفائدة إلى مشروع عام مشترك، يجد الفرد مجالاً للتعبير والخلق.
وبين هذين القطبين يتحرك مشروع أدونيس النقدي، الذي يظل، رغم مثاليته أحيانًا، من أكثر المشاريع الفكريّة العربيّة
المعاصرة إلحاحًا وجرأة.
ثبت بالمراجع
أدونيس. (1974). الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب. بيروت: دار العودة.
أدونيس. (1989). زمن الشعر. بيروت: دار العودة.
أدونيس. (1995). الكتاب: أمس المكان الآن. بيروت: دار الساقي.
خليل، خليل أحمد. (1996). الفكر العربي المعاصر: أزمة السلطة والفرد. بيروت: دار الطليعة.
بنيس، محمد. (2002). الحداثة المعطوبة: نقد الفكر الشعري عند أدونيس. الدار البيضاء: دار توبقال.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency