"تركيا هدف إسرائيل القادم"، عبارة تكررت في الخطاب السياسي والإعلامي والأكاديمي الإسرائيلي، ما يعكس انتقال التوتر بين أنقرة وتل أبيب من خلاف سياسي تقليدي إلى مرحلة من التصعيد العلني والخطير. وقد بلغ التوتر ذروته بعد تدوينة للأكاديمي الإسرائيلي مئير مصري عقب الضربة الإسرائيلية في قطر، كتب فيها: "بالأمس إيران، واليوم قطر، وغدًا تركيا... يدنا الطولى ستضرب في كل مكان". أثار ذلك موجة جدل واسعة، ورد عليه كبير مستشاري الرئيس أردوغان، أوكتاي سارال، بتدوينة حادة قال فيها: "إلى كلب إسرائيل الصهيونية؛ من الواضح أنك لا تعرف تركيا ولا الأمة التركية... إنها ليست بعيدة. قريبًا سيجد العالم السلام بعد محوك من على الخريطة. إن كنت تسأل "من سيفعل هذا؟" فهذه هي الدولة التي تخطط لمهاجمتها غدًا!". ليرد مصري بلهجة استفزازية: "أقول لكلب أردوغان: انسحب من قبرص، امنح كردستان الحرية، واعترف بالإبادة الجماعية للأرمن".
وسبق ذلك تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أضاف مزيدًا من الوقود إلى نار التوتر، إذ قال في كلمة خلال فعالية المولد النبوي الشريف: "لا يمكن أن نبقى متفرجين أمام جرائم المدعو نتنياهو بفلسطين، ذلك الطاغية الكافر"، مؤكدًا أن الصمت تجاه ما يجري في غزة ليس خيارًا. غير أن الشعوب العربية والإسلامية، وفي مقدمتها غزة التي تنزف منذ عامين بلا ضماد لجراحها، لا تزال تنتظر أن تتحول هذه الأقوال إلى أفعال.
وركز الإعلام العبري على هتافات شبان أتراك خلال خطاب لأردوغان: "خذنا إلى القدس يا رئيس"، فرد: "من صبر ظفر"، ما اعتبره مراقبون مؤشرًا لاحتمال مواجهة مباشرة، وزادت المخاوف مع تلويح أردوغان بتدخل عسكري شبيه بتدخلات تركيا في قره باغ وليبيا.
هذا التصعيد الكلامي يندرج ضمن سياق أوسع من إعلانات إسرائيل عن "التوسع" وعملياتها العسكرية الممتدة من إيران وسوريا ولبنان وفلسطين إلى اليمن وقطر. بالنسبة لتركيا، تمثل هذه التحركات تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي وتغذي سيناريوهات صدام محتمل، خاصة بعد قمة الدوحة وما تلاها من تبادل تهديدات.
ولفهم جذور التوتر، تجدر الإشارة إلى أن تركيا كانت أول دولة ذات غالبية مسلمة تعترف رسميًا بإسرائيل عام 1949، في عهد حزب الشعب الجمهوري بقيادة عصمت إينونو، الحزب الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك. ومنذ ذلك التاريخ، شهدت العلاقات مسارًا متقلبًا بين التعاون والقطيعة، ففي التسعينيات بلغت الشراكة الأمنية والعسكرية ذروتها، غير أن صعود حزب العدالة والتنمية حمل خطابًا أكثر انحيازًا للقضية الفلسطينية. وقد شكّلت حرب غزة 2008 وحادثة أسطول مرمرة 2010 نقطة تحول فارقة أفضت إلى تراجع حاد، أعقبته محاولات ترميم محدودة فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية.
اليوم تقف العلاقات التركية–الإسرائيلية عند مفترق بالغ التعقيد؛ فمن جهة هناك تعاون اقتصادي وحاجة متبادلة في الطاقة، ومن جهة أخرى يطغى خطاب سياسي ودبلوماسي حاد. وقد ازدادت التحديات بعد حرب غزة في تشرين الأول 2023، حيث رأت تل أبيب أن أنقرة تتبنى سياسات عدائية شملت دعم الحركات الإسلامية وتعزيز علاقاتها مع حركة حماس، إلى جانب توسيع نفوذها في ليبيا والقرن الأفريقي والبحر الأحمر. ومع اتساع نطاق العدوان على غزة، أقدمت تركيا على خطوات غير مسبوقة بقطع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع إسرائيل، والانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وسط موجة دعم شعبي وتصريحات نارية من أردوغان.
وفي خضم ذلك، دعا أردوغان إلى تشكيل تحالف إسلامي في مواجهة إسرائيل، ما أثار ردود فعل غاضبة وصلت إلى حد اتهامه بالتعاون مع إيران لزعزعة استقرار "الأنظمة المعتدلة". ومع سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، رأت تل أبيب أن الفراغ الذي خلّفه انهيار الدولة السورية منح تركيا فرصة لتعزيز نفوذها في المشرق، بما يشمل حضورًا أقرب إلى الحدود الشمالية لإسرائيل ودعمًا أوسع لفصائل المعارضة السورية، الأمر الذي اعتُبر تهديدًا طويل الأمد للأمن الاستراتيجي الإسرائيلي.
ومع اندلاع الحرب الإيرانية–الإسرائيلية واتساع الاستهداف ليشمل مواقع في قطر، تصاعدت المخاوف الإسرائيلية من الموقف التركي، خاصة مع العلاقات الوثيقة بين أنقرة والدوحة. وقد رأت تل أبيب أن الخطاب التركي المتشدد وتحركات أنقرة الإقليمية باتت تمثل عامل ضغط إضافي في بيئة مضطربة، ما جعلها تتحدث علنًا عن "ضرورة لجم الدور التركي". وهكذا تحولت تركيا في الخطاب الإسرائيلي من خصم سياسي ودبلوماسي إلى تهديد استراتيجي مباشر.
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن إسرائيل لا تسمح لأي دولة في المنطقة، بما فيها تركيا، بالتحرك أو حتى التعبير عن مخاوفها إزاء تمدد نفوذها؛ فهي لا تعترف بحق الآخرين في الرد على سياساتها العدوانية أو تطوير قدراتهم الدفاعية، بينما تبرر تدخلاتها المتواصلة بذريعة "الأمن القومي". والواقع أن هذا الأمن، في التصور الإسرائيلي، ليس سوى أداة لتكريس الهيمنة عبر الاحتلال والإبادة والتهجير وفرض واقع إقليمي جديد.
وفي ضوء هذه التطورات، تتزايد المؤشرات على أن المنطقة تقف على أعتاب مرحلة شديدة الخطورة. فالمواجهة بين تركيا وإسرائيل لم تعد مجرد سيناريو محتمل، بل صارت قاب قوسين أو أدنى. التصريحات النارية المتبادلة والتلميحات الصريحة باستهداف أنقرة، مع الإجراءات التركية المتشددة وقطع العلاقات، وتداخل ملفات غزة وإيران وقطر في سياق واحد، كلها مؤشرات تدفع باتجاه صدام مباشر قد ينفجر عبر بوابة سوريا، ويعيد رسم خرائط التحالفات والتوازنات في الشرق الأوسط.
وعليه، لم يعد الحديث عن مواجهة تركية–إسرائيلية مجرد افتراض أو ورقة ضغط سياسية؛ فكل المعطيات تؤكد أن الصدام بات وشيكًا، وأن المنطقة تقف على أعتاب انفجار عسكري مباشر بين أنقرة وتل أبيب. مواجهة لن تقتصر على حدود جغرافية ضيقة، بل ستعيد تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية والتوازنات الدولية، لتعلن بداية مرحلة جديدة في الشرق الأوسط عنوانها: مواجهة مفتوحة بين تركيا وإسرائيل لا مفر منها.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency