قراءة نقديّة في قصيدة "وصيّة" لنبيل طنّوس
مدخل: وصيّة شعرية تتجاوز حدود الأبوة
تستند قصيدة «وصيّة» لنبيل طنّوس إلى بنية الوصيّة بوصفها خطابًا إنسانيًّا موجّهًا من مُجرِّب إلى مُتلقٍّ ناشئ. في ظاهر النص، يخاطب الأبُ ابنه، لكنّ الاستدعاء يتجاوز حدود العلاقة العائلية ليصبح خطابًا أخلاقيًّا مفتوحًا على كل قارئ، كأنّ الشاعر يحوّل التجربة الشخصية إلى ميراث إنسانيّ جامع.
بنية الحِجاج: من توصيف القسوة إلى اقتراح اللين
يبني الشاعر خطابه على مسار ثلاثيّ:
1. العالَم قاسٍ: “شرس، صعب المراس، غليظ القلب”.
2. الوصيّة: “كُن حسن الخلق، رزينًا” لتجعل الطريق هيِّنًا يسيرًا.
3. المثال الطبيعي: الأرض الرخوة خصبة مثمرة، بينما الصلبة قاحلة وعقيمة.
بهذا، يقدّم النص حجّةً متكاملة: مقاومة القسوة لا تكون بالتشابه معها، بل بالانفتاح والرزانة.
جمالية التضادّ: قسوةٌ مقابل لين
يشتغل النص على ثنائية واضحة:
• القسوة/العُسر: شرس، صعب، صلبة، قاحلة.
• اللّين/اليُسر: رزين، هيّن، يسير، رخوة، مثمرة.
هذا التضادّ يُنتج رؤية فلسفية: ما يبدو هشاشةً (الرخاوة) هو عين القوّة لأنّه مصدر العطاء. إنّه انقلاب في القيمة، حيث يُعاد تعريف القوّة بالمرونة لا بالصلابة.
الصور الشعرية: الأرض والشجرة
تأتي الاستعارات من الطبيعة القريبة:
• الأرض الرخوة: رمزٌ للاستعداد للتلقّي والإنبات.
• الأرض الصلبة: استعارة للانغلاق والعقم.
• الشجرة المثمرة: صورة إنسان معطاء يقصده الجميع.
هذه الصور البسيطة تجعل النص قريبًا من المتلقي، لكنها في الوقت ذاته عميقة، لأنّها تنقل الفلسفة الأخلاقية إلى مستوى محسوس يعيشه القارئ في يومه.
بلاغة الإيقاع والصوت
اختيارات الألفاظ ليست بريئة: الحروف الصلبة في “شرس، صعب، صلبة، قاحلة” تُحاكي خشونة الواقع، فيما الأصوات الرخوة في “رخوة، يسير، مثمرة” تمنح جرَسًا ليّنًا ينسجم مع معنى السهولة. هذه «المحاكاة الصوتية» تضيف بعدًا موسيقيًّا يرسّخ المعنى في وجدان القارئ.
البعد القيمي: من الذات إلى الجماعة
“افتح صدرك وأعطِ من ثمارك” جملة تختزل الرسالة الأخلاقية للقصيدة. فالمُوصى له لا يُطلب منه أن يحمي نفسه فحسب، بل أن يتحوّل إلى مصدر خير للآخرين. هنا نلمس انتقالًا من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية، حيث يصبح العطاء شرطًا لبناء مجتمع إنسانيّ أرحب.
أفق تأويلي: اللين كقوة وجودية
ينفتح النص على تراث الحكمة الإنسانية، من أقوال الفلاسفة القدامى عن الاعتدال، إلى الروحانيات الدينية التي تمجّد الشجرة الطيبة والثمار الطاهرة. غير أنّ طنّوس لا يقع في المباشرة الوعظية؛ إذ يحافظ على طابع الشعر عبر الصورة والرمز، ويترك الباب مفتوحًا للتأويل الشخصي.
خاتمة: قصيدة «وصيّة» قصيرة في مبناها، عميقة في معناها، تُعيد الاعتبار لفكرة أن الرخاوة ليست ضعفًا، بل خصوبة وقدرة على العطاء. في زمن يعلو فيه صوت العنف، يقدّم لنا طنّوس بلاغةً بديلة: قوّةُ اللين في مواجهة القسوة. لذلك، فهي نصٌّ يليق بصفحات جريدة المثقف، حيث يلتقي الشعر بالرسالة الأخلاقية، ويُترجم التجربة الفردية إلى دعوة إنسانية شاملة.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency