الفاشر... الوجه العاري لتحالف الذهب والدم بين الإمارات وحميدتي

ساهر غزاوي 
نُشر: 06/11/25 21:48,  حُتلن: 21:49

ليست هذه المرة الأولى التي أتناول فيها مأساة السودان المنسيّة، تلك التي تُغيّب عمدًا عن الاهتمام الإعلامي والدولي لأسباب متعددة، منها انشغال العالم بحرب الإبادة المستمرة في غزة منذ عامين، أو بالحرب الروسية–الأوكرانية التي تحوّلت إلى ساحة صراع مفتوح بين الغرب وروسيا. قبل عام تمامًا، كتبت مقالًا بعنوان "المأساة المنسيّة: السودان بين الحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية"، سعيتُ فيه إلى تسليط الضوء على واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية تهميشًا في الساحة العربية والإسلامية، حيث يعيش الشعب السوداني مأساةً متواصلة تُفقده أبسط مقومات الحياة، وتُغرق البلاد في دوّامة دمارٍ شامل.
ورغم التشابه الكبير بين ما يعانيه السودانيون وما يتعرض له أهالي غزة من مآس إنسانية كارثية، إلا أن الفارق الجوهري يكمن في أن مأساة السودان تنبع من الداخل؛ من صراع دموي بين أبناء الوطن الواحد تتنازع فيه القوى المسلحة على السلطة والنفوذ، بينما تتكاثر التدخلات الإقليمية والدولية التي تؤجّج الصراع وتُعمّق الانقسام، في مشهد يعيد إنتاج المأساة بدلًا من حلّها.
غير أنّ الهدوء النسبي في غزة – ولو مؤقتًا – أعاد الأضواء مجددًا إلى السودان، لا سيّما بعد الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة الفاشر، والتي تصدرت عناوين الأخبار خلال الأسابيع الأخيرة. فالوضع الإنساني هناك يتدهور بوتيرة متسارعة مع انقطاع الإمدادات الطبية والغذائية، وفقًا لتقارير المنظمات الدولية التي تُحذر من كارثة إنسانية وشيكة.
في السادس والعشرين من تشرين الأول الماضي، استولت قوات الدعم السريع على الفاشر، مركز ولاية شمال دارفور، وارتكبت مجازر مروّعة بحق المدنيين، بحسب شهادات محلية ودولية متطابقة، وسط مخاوف متزايدة من ترسيخ تقسيم جغرافي جديد في البلاد. وبعد أيام، خرج قائد هذه القوات، المدعو محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليعترف بوقوع "تجاوزات" من عناصره، معلنًا تشكيل لجان تحقيق، في خطوة بدت أقرب إلى محاولة لاحتواء الغضب الدولي وتلميع الصورة منها إلى التزام حقيقي بمبدأ المساءلة والعدالة.
لم تعد الأخطار المحدقة بالمدنيين في الفاشر تقتصر على نيران الحرب وحدها، بل أصبح النزوح ذاته معركة من نوعٍ آخر، إذ يواجه النازحون مصاعب جمّة في الهروب من مناطق الاشتباك وسط غياب تام للأمن والمساعدات الإنسانية.
الواقع أن هذه الحرب، "كلما قيل إنها انقضت، تمادت"؛ فهي حرب تتبدل ميادينها لكنها لا تنطفئ، وتبدو وكأنها جزء من مشهد أوسع من الفوضى التي تجتاح المنطقة والعالم، حيث تُعاد صياغة الخرائط السياسية فوق صفيح ساخن.
في هذا السياق، يبرز الدور الإماراتي المريب في مأساة السودان، لا سيّما في أحداث الفاشر الأخيرة. فبينما خرجت أبو ظبي في مجلس الأمن تُدين الهجمات ضد المدنيين وتدعو إلى محاسبة المسؤولين عنها – في مشهد يثير السخرية والاشمئزاز في آن واحد – تتداول التقارير الدولية معلومات موثقة عن ضلوعها في تمويل وتسليح قوات الدعم السريع، مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية ضخمة في مناجم الذهب ومناطق التعدين بدارفور، وهي ثروات باتت تمثل الهدف الأهم في سباق النفوذ الإقليمي.
ولا يقتصر الدور الإماراتي على الاقتصاد فحسب، بل يمتد إلى تفتيت المجتمعات ومحاربة أي تجربة ديمقراطية أو إسلامية ناشئة في العالم العربي. فحيثما ظهرت بوادر تحرر أو مشروع وطني جامع، كانت أبو ظبي حاضرة لإفشاله – كما فعلت في مصر وليبيا واليمن – وها هي اليوم تُعيد السيناريو ذاته في السودان، مستخدمة المال والسلاح والإعلام لإعادة تشكيل المشهد بما يخدم مصالحها ومصالح حلفائها.
لقد أعادت المجازر في الفاشر تسليط الضوء على الدور الإماراتي في الحرب الأهلية المتفاقمة في السودان، وسط تصاعد الاتهامات بتزويد قوات الدعم السريع بالأسلحة والدعم اللوجستي. وبحسب تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، فإن مراقبين لتهريب الأسلحة ومنظمات حقوقية – إضافة إلى الحكومة السودانية المدعومة من الجيش – اتهموا أبو ظبي مرارًا بإرسال أسلحة وموارد إلى قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، الذي يخوض منذ عام 2023 صراعًا على السلطة ضد حلفائه السابقين في القوات المسلحة السودانية.
وتعود جذور العلاقة بين أبو ظبي وحميدتي إلى مشاركته في التحالف الذي قادته السعودية والإمارات في اليمن عام 2015، حيث تم تجنيد مقاتلي "الدعم السريع" ضمن صفوف التحالف ضد الحوثيين. وقد عزز هذا التعاون الروابط بين الطرفين ومنح حميدتي مكانة قوية لدى الإمارات، التي تنظر إليه بوصفه حائط صد ضد عودة الإسلاميين المرتبطين بنظام عمر البشير.
أما من الناحية الاقتصادية، فإن السودان يمثل منذ سنوات جزءًا من مشروع أبو ظبي لتوسيع نفوذها في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. فقد كانت تخطط لبناء ميناء جديد وتطوير مشاريع زراعية كبرى، بينما تسيطر شركات مرتبطة بحميدتي على جزء من صادرات الذهب السوداني التي تُهرب إلى الإمارات. وبذلك، "راهنت أبو ظبي على حميدتي" لحماية مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، معتبرة أنه يجسد نموذج "الرجل القوي" الذي تفضله في المنطقة، قبل أن يتحوّل اليوم إلى عبء سياسي متزايد مع تصاعد الكارثة الإنسانية في السودان.
في النهاية، نحن أمام منظومة استعمارية حديثة تتقدمها الذراع الأميركية، تُدير حروبًا بالوكالة وتُعيد تشكيل الإقليم بما يخدم مصالحها ومصالح حلفائها، وتمثل الإمارات إحدى أذرعها النشطة في هذا السياق. منظومة لا مصلحة لها في أن يسود السلام أو الاستقرار في المنطقة، فوظيفتها – كما تُثبت الوقائع – أن تُبقي الشرق الأوسط، ولا سيّما الساحة العربية والإسلامية، ساحة دائمة للفوضى؛ تُدار فيها الحروب بيد، وتُعقد صفقات الأسلحة والذهب والنفط والموانئ باليد الأخرى.
ومع ذلك، فإن ملامح سقوط هذه المنظومة بدأت تلوح في الأفق، بعدما ساهمت الحرب على غزة، طوال عامين، في تعريتها أمام شعوبها أولًا، وأمام العالم بأسره ثانيًا، الذي ضاق ذرعًا بسياساتها المنافقة وأدوارها التخريبية، وبما تمارسه من قهر وجور على هذه الأرض. لقد بدأت أقنعة القوة والهيمنة تتساقط، لتنكشف خلفها بنية مأزومة تستمد بقاءها من الدماء والخراب، وتقترب شيئًا فشيئًا من نهايتها الحتمية. 
 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة