في عالمٍ يتزاحم فيه الصخب وتُبتلع فيه الأصوات الضعيفة، يعود إلينا يسوع التاريخي لا كرمز لاهوتي جامد، بل كإنسانٍ تاه في طرقات التاريخ، وبقي رغم الغياب أقربَ إلينا من أيّ زمن.
كتاب «يسوع التاريخي»، الذي أعدّه الأب أيوب شهوان ضمن منشورات الرابطة الكتابية في الشرق الأوسط، يفتح الباب واسعًا أمام سؤالٍ لم يفقد بريقه:
هل يمكن أن نفصل بين يسوع الإيمان ويسوع التاريخ؟
بين الذي نصلّي له، والذي سار على أرضنا وعرِقَ وخاف واحتضن الأطفال والغرباء؟
⸻
بين الوثيقة والوجدان
يُعيد الكتاب بناء صورة يسوع من خلال مقاربات علميّة ونصوص إنجيلية وقراءات نقدية للمصادر القديمة.
لكنّ الأهم من ذلك هو أنه يُتيح لنا أن نرى في يسوع الناصري صورة الإنسان الذي تجاوز حدود زمانه، وواجه مؤسسات دينية وسياسية لم تحتمل صدقه.
ولعلّ القيمة الكبرى لهذا العمل تكمن في أنّه يُعيدنا إلى جذور الإيمان قبل أن يَتَشَكَّل الدين، وإلى التجربة قبل أن تُحوَّل إلى عقيدة.
يسوع هنا ليس بطلًا خارقًا، بل إنسانًا عاش هشاشته بشجاعة، وجعل من ضعفه رسالة خلاص، ومن موته وعدًا بالحياة.
⸻
إنسان الحافة لا المركز
من المهم أن نتذكّر أنّ يسوع لم يأتِ من القصور ولا من المدارس العليا.
هو ابن قريةٍ على هامش الإمبراطورية، ابن امرأةٍ فقيرة وآمالٍ صغيرة.
من هذا الهامش بالذات صنع ثورته الكبرى، وعلّمنا أن الطريق إلى الحقيقة يمرّ عبر الألم، وأنّ المصلوبين وحدهم يعرفون معنى القيامة.
إن قراءة يسوع في بعده التاريخي ليست تقليلاً من شأنه، بل تحرّره من الأقفاص التي حبسناه فيها قرونًا.
حين نفهمه إنسانًا، نفهم أنّ القداسة ليست امتيازًا، بل خيارًا يوميًا في مواجهة الظلم والخوف والتواطؤ.
⸻
وجدان الباحث عن الحقيقة
ربما لا شيء أكثر إنسانية من البحث عن المعنى وسط الركام.
هذا ما يفعله القارئ وهو يتصفّح صفحات «يسوع التاريخي»: يكتشف أن التاريخ ليس مجرّد تواريخ وأسماء، بل مرآة لما نخشاه وما نحلم به.
يسوع الذي يُقدّمه الكتاب ليس أسطورة تتعالى على البشر، بل نموذج لما يمكن أن نكون عليه لو تجرّأنا أن نحبّ كما أحبّ، وأن نغفر كما غفر، وأن نقول «نعم» للحياة رغم الصليب.
⸻
رسالة اليوم والغد
في زمنٍ يزداد فيه العنف باسم الدين، يُذكّرنا هذا العمل بأنّ الإيمان الحقيقي لا ينفصل عن الحرية، وأنّ المحبة ليست شعارًا بل التزامًا بالإنسان، أيًّا كان دينه أو جنسه أو وطنه.
يسوع التاريخيّ ليس ماضيًا؛ إنّه مستقبلٌ مفتوح على الرجاء.
إنه الإنسان الذي ما زال يطرق أبوابنا كلّ صباح، يسألنا:
هل ما زلتم تؤمنون بالحبّ؟
هل ما زلتم قادرين أن تروا في الآخر وجه الله؟
⸻
خاتمة
بين صفحات «يسوع التاريخي»، تتجلّى ولادة جديدة للفكر الديني العربي، وللاهوتٍ يتكلّم لغة الإنسان قبل لغة المعبد.
إنه نداءٌ لأنسنة الإيمان، وصرخةُ شوقٍ إلى يسوع الذي أحبّ بلا حدود، وعلّمنا أن الحقيقة لا تُصلَب إلا لتقوم من جديد
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency