البحث عن المعنى في مرايا الوجود: قراءة نقديّة موسّعة في قصيدة "أبحث عن ذاتي" لآمال قزل

د. أحمد كامل
نُشر: 14/11/25 14:05

تفتح قصيدة "أبحث عن ذاتي" فضاء شعريًّا واسعًا أمام القارئ، حيث تتقاطع التجربة الفرديّة مع الأسئلة الكبرى للوجود الإنسانيّ. ومع كلّ قراءة للنصّ أشعر بأنّ الشاعرة لا تكتب عن ذاتّها فحسب، بل تقيم حوارًا مفتوحًا مع الوعي الكونيّ، ومع ما يمكن أن أسميه "طبقات الروح" التي تتقاطع في الإنسان بين الخوف والرجاء، بين الذاكرة والنسيان، وبين المعرفة والحيرة. القصيدة تحمل بُنى رمزيّة كثيفة، غير أنّها لا تنزلق إلى الغموض المفرط؛ بل تتيح للقارئ أن يتلمّس المعنى من خلال مرآة الذات، وكأنّ الشاعرة تعيد ترتيب عناصر الوجود من حولها كي تقترب خطوة من ذلك الجوهر الغامض الذي تبحث عنه.

تبدأ القصيدة بصياغة تذكّر بالقسم الوجوديّ، بقولها: "يا مرايا الرّوح المُلهَمة، أبحث في ثناياك عن رحلة الخلود، عن بئر عميقة في الحلم والرّؤى". هذه البداية تحدّد منذ اللحظة الأولى طبيعة النصّ: بحث لا ينفكّ يتجدّد، ورحلة تتجاوز الحدود المألوفة للوعي. شخصيًّا، وجدت في هذا المطلع ما يشبه الإعلان عن دخول طقس روحيّ، طقس ينفتح فيه القارئ على الذات بوصفها سؤالًا، لا حقيقة ناجزة. إنّ الحديث عن "بئر عميقة" داخل "الحلم والرؤى" يوحي بوجود طبقات خفيّة مُترسّبة في أعماق الإنسان، طبقات لا ترى إلّا حين نتسلّل إلى الداخل بهدوء وحذر.

يتكرّر الفعل "أبحث" في القصيدة كما يتكرّر النَّفَس في الصدر. هذا التكرار يخلق في رأيي إيقاعًا داخليًّا يشبه نبضًا متواصلًا، نبضًا يعلن أنّ البحث ليس فعلًا طارئًا، بل حالة جوهريّة ترافق الكائن البشري منذ إدراكه الأول. تقول الشاعرة: "أبحث عن الموجود والمنشود، أبحث عن ظلّي في حشائش الوقت وأزهار الصّمت". إنّ الجمع بين "الموجود" و"المنشود" يعبّر عن المفارقة الوجوديّة التي يعيشها الإنسان: بين ما هو حاضر وقائم أمامه، وبين ما يأمل الوصول إليه ذات يوم. وفي قولها "حشائش الوقت" و"أزهار الصمت" تبرز قدرة الشاعرة على خلق صور مركّبة تجمع بين المادّيّ والرّمزيّ. هذه الصور تمنح النصّ كثافة دلاليّة، وتثير داخلي إحساسًا بأنّ الزمن والصمت ليسا إطارين خارجيّين فحسب، بل عنصرين يسكنان داخل التجربة الذاتيّة نفسها.

وإذا كان البحث في بدايته موجّهًا نحو الظلّ والزمن والوجود، فإنّه يتحوّل سريعًا إلى استكشاف لذاكرة خفيّة دفنتها الأيام. تقول الشاعرة: "أبحث في كهوف النسيان التي غطّاها شوك البهتان ورماد الأيام التي خلت من المعرفة". هنا تتداخل الذاكرة مع الجرح، والنسيان مع شعور دفين بالأسى. ما يلفتني أنّ الشاعرة لا تتعامل مع النسيان كفراغ، بل كمكان داخليّ معتم مغطّى بـ"شوك البهتان"، وهذا التعبير يشير إلى أنّ النسيان ليس نتيجة الغياب فقط، بل نتيجة تشويه أو قمع معرفيّ ووجدانيّ. هنا يظهر البعد النفسيّ للقصيدة، حيث تبدأ ملامح الصراع الداخليّ بالتكشّف شيئًا فشيئًا.

في مقاطع أخرى، تتّخذ القصيدة منحًى تأمليًّا أعمق، حين تسقط الذات على تجربتها صورًا واسعة، مثل: "أبحث في متاهات النّفس عن صوَر تلوح لي كسرابٍ في صحراءِ البحث". هذه العبارة، في ظنّي، تُشكّل جوهر القصيدة؛ إذ إنّ الهروب من الذات نحو الذات نفسها هو أكثر المتاهات تعقيدًا. المتاهة تشبه في حضورها ما يعيشه الإنسان حين يحاول فهم نفسه وسط ضجيج الحياة، والسراب هنا يحيل إلى النتائج المرتجاة التي كلّما اقترب منها الإنسان ابتعدت عنه. كثافة الاستعارة تمنح النصّ بعدًا روحيًّا واضحًا، لكنّها في الوقت نفسه تحافظ على صلتها بالحياة الواقعيّة وبالتجربة الإنسانيّة الملموسة.

تكشف الشاعرة لاحقًا عن بعد صوفيّ صريح، حين تقول: "أبحث عن جوهرة في قلبي يجذبني إليها ذاك البريق، أبحث في غرب وشرق وفي موت وولادة الفينيق". إنّ الجوهرة في القلب رمز عميق للجذوة الوجوديّة، للمعرفة المُطهِّرة، أو للحقيقة التي يدركها المرء ولا يعبّر عنها بالكلمات. أمّا الفينيق، طائر الأسطورة المعروف بالانبعاث، فيشير هنا إلى قدرة الذات على التجديد الدائم، وعلى الخروج من التجربة أقوى ممّا كانت. إنّ حضور الفينيق في النصّ ليس رتوشًا جماليًّا، بل بنية رمزيّة تكمّل مسار البحث. لقد شعرت أثناء القراءة أنّ الشاعرة تحاور بداياتها ونهاياتها معًا، وتستدعي من الرماد معنى جديدًا، كأنّها تقول: لولا السقوط، لما كان للنهوض هذا البريق.

تتّسع الدائرة الرمزيّة حين تنتقل الشاعرة إلى تعداد عناصر تشبه كونًا داخليًّا كاملًا. تقول: "يا رياحي وموا سمي وعصفي وهدوئي، يا أسفاري ومزاميري وعهودي وآياتي وحكمتي ورحيلي نحو حدودي الخمس، يا تفسيري واستفساري، يا ليلي ونهاري، يا أغنيتي وتراتيلي وأناشيدي وقناديلي المعلّقة في روحي العطشى". هذا المقطع، في تقديري، لا يراد له أن يكون مجرّد وصف للذات، بل هو بناء لنظام داخليّ تصبح فيه الذات عالمًا قائمًا بذاته. إنّ ضمّ الرياح والمواسم والعصف والهدوء في حقل واحد يشير إلى تعدّد طبقات الشخصية، إلى أنّ الإنسان يتكوّن من تناقضات تتحاور باستمرار. كما أنّ الحديث عن "القناديل المعلّقة في الروح العطشى" يكشف بوضوح الحاجة المستمرة إلى النور، إلى المعرفة، إلى الطمأنينة، وكأنّ الذات هنا غرفة واسعة تحتاج دائمًا إلى ضوءٍ جديد.

يشكّل الزمن عنصرًا بنائيًّا محوريًّا في القصيدة. فالإشارات إلى "حافة العمر" و"حدود الطريق" و"قبل أن يلفّها الرمس" تضع البحث في سياق محدوديّة الوجود الإنسانيّ. وأنا، كقارئ، شعرت أنّ هذا الوعي الحادّ بقِصر الزمن هو الذي يمنح القصيدة توتّرها الداخلي، ويعطي رحلة البحث طابعها الملحّ والمتسارع. ليست الشاعرة في عجلة بمعنى السرعة، بل بمعنى الشعور بأنّ الهروب من الداخل لم يعد ممكنًا، وأنّ المواجهة باتت ضرورة لا اختيارًا.

ومع امتداد النصّ، يبرز التوازن بين الألم والنور، بين الانغلاق والانفتاح. تقول الشاعرة: "حينما تشرق شموس الحقّ، يا رحلة تكويني وشوقي وحنيني، يا سجني وتحرّري، يا بوصلتي عند جهاتي النورانيّة". هذه المفارقات، السجن والتحرّر، الشوق والحنين، تكوين الذات وملامسة النور، تشير إلى أنّ الذات ليست حالة واحدة، بل عملية جارية، تتبدّل وتتشكّل مع كلّ لحظة وعي. البوصلة هنا رمز مهمّ، لأنّها تعيد البحث إلى مساره: فالإنسان يحتاج دائمًا إلى اتّجاه، حتى لو كان ذلك الاتجاه نحو الداخل.

وفي المقطع الأخير من القصيدة، تتصاعد الرمزيّة لتبلغ ذروتها الهادئة، حيث تقول الشاعرة: "فقلبي زهرة لوتس كم تشتهي الارتواء بمائك وكم أهوى البحث في أغوار النفس قبل أن يلفَّها الرمس". لقد توقّفت طويلاً عند هذه العبارة، لأنها في رأيي تلخّص كامل التجربة الشعريّة. اللوتس رمز للنقاء، وللارتقاء الروحيّ، وللولادة من قلب الطين. أمّا الماء، فهو المعرفة، والوعي، والشرط الضروريّ للحياة. إنّ جمع اللوتس والماء والرمس في سطر واحد يشكّل خريطة الوجود الإنسانيّ: الولادة، المسيرة، النهاية. لكنّ النهاية هنا ليست موتًا بمعنى الانطفاء، بل الوعي بأنّ البحث ذاته هو الحياة، وأنّ الإنسان يعيش طالما ظلّ يسأل.

ومع أنّني أقرأ القصيدة بوصفها نصًّا فلسفيًّا، إلّا أنّها لا تبتعد عن الشعر بمعناه الجماليّ. تحافظ الشاعرة على التوازن بين الفكرة والصورة، بين الإيقاع والمعنى، بين الحلم والرؤيا، وهو توازن يندر أن يتحقّق في نصوص تتناول البحث الوجوديّ. إنّ قدرة القصيدة على جعل القارئ يشعر بأنّه جزء من الرحلة يمنحها قيمة إضافيّة، إذ لا يبدو النصّ مغلقًا أو مكتفيًا بذاته، بل يدعو إلى المشاركة، إلى إعادة اكتشاف الذات عبر التماهي مع صور النصّ ومع رموزه.

وفي نهاية المطاف، أرى أنّ قصيدة "أبحث عن ذاتي" ليست مجرّد نصّ شعريّ، بل هي مشروع معرفيّ وروحيّ مكتمل. إنّها تقدّم البحث عن الذات لا كحالة اضطراب أو ضياع، بل كفعل خلق دائم. الشاعرة ترسم خارطة الوجود عبر رموز تتوزّع بين الطبيعة والجسد والروح والزمن، وتبني بنية لغويّة متماسكة تستند إلى الوعي بالمعنى وبمحدوديّته في آن معًا. النصّ يُمارس فعل الكشف، لكنّه لا يدّعي الوصول، لأنّ الوصول يعني توقّف الرحلة، والشاعرة تدرك أنّ حركة البحث هي التي تمنح الإنسان قيمته.

بهذا، تصبح القراءة في هذه القصيدة أشبه بحوار طويل مع الذات، حوار يتداخل فيه الصوت الشخصيّ مع الصوت الكونيّ، وتتماهى فيه التجربة الفرديّة مع أسئلة الوجود الكبرى. وكلّما أعدت قراءة النصّ، شعرت بأنّ ثمّة طبقة جديدة تتكشف، وكأنّ القصيدة لا تقرأ دفعة واحدة، بل تفتح أبوابها تدريجيًّا لمن يملك صبر التأمّل وجرأة الاقتراب من مرايا الوعي.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة