لم يكن سامر يظنّ أن الفقد قادرٌ على إعادة تشكيل حياة الإنسان من جذورها.
كان شابًا في الثامنة والعشرين، يحمل أحلامًا أكبر مما تسمح به مدينته،
لكن رحيل والده في آب كان أشبه بيدٍ تُطفئ نورًا داخليًا دون ضجيج.
غياب الأب لم يكن موتًا فقط،
بل كان سقوط السند الذي يُقيم البيت ويهبه توازنه.
منذ ذلك اليوم، صار سامر يعيش على حافة بين ما يريد أن يكونه،
وما فُرض عليه أن يكون.
كانت مسؤوليات البيت تمتد أمامه كما تمتد الشوارع القديمة:
طويلة،
متعبة،
ولا تمنح أحدًا فرصة للتراجع.
كانت أمّه ترى ما لا يقوله.
تلمح الانحناءة الخفيفة في كتفيه،
والنظرة التي تُغلق شيئًا في داخله ببطء،
وتعرف أن الحزن لا يهزم الناس عادة،
لكن الصمت يفعل إن طال بهم الأمر.
ظلّ السوق… وظلّ المدينة
في صباحٍ خريفي، وقف سامر أمام باب متجر صغير في السوق السوداء.
لم يكن المكان مخيفًا،
لكن الهواء كان مُثقلًا بما يشبه الخوف الخافت:
خوف الفقر،
وخوف الحاجة،
وخوف أن تتحوّل الأيام إلى عبء لا يمكن حمله.
كان سامر يبحث عن عمل لا يريده،
لكنه يحتاجه.
لم يعد يملك رفاهية الاختيار.
دخل السوق كما يدخل المرء منطقة لا ينتمي إليها،
ثم يدرك أن الظلّ الذي يلفّه ليس ظلّ السوق وحدها،
بل ظلّ مجتمعٍ يطالب أبناءه بالصمود
من دون أن يمنحهم أرضًا ثابتة للوقوف.
الليلة التي ضاق فيها العالم
الانكسار — كما عرفه سامر — لا يجيء كصفعة،
بل كصمت ثقيل يتسلّل قطرةً بعد قطرة
حتى يصبح حمله فوق طاقة الروح.
في ليلة موحشة، جلس سامر في غرفته.
شعر أن العالم ينكمش من حوله،
وأن قلبه يحتاج هواءً أكثر مما تمنحه الغرفة.
كان التعب يتراكم داخله كما يتراكم الغبار على نافذة بلا شمس.
من دون تفكير طويل، مدّ يده إلى الهاتف واتصل.
قال كلمة واحدة فقط:
“ماما…”
وكانت تلك الكلمة وحدها بداية الضوء.
لم تطلب أمّه تفسيرًا.
كانت تعرف أن التفاصيل لا تُقال حين يصل التعب إلى حدّه.
قالت له بصوتٍ هو أقرب إلى فتح نافذة:
“تعال… البيت يتّسع لك.”
وفي تلك الجملة، اكتشف سامر أن الإنسان لا يحتاج مدينة كاملة ليقف،
بل يحتاج مكانًا واحدًا يفهم قلبه.
العودة… لا كقَهر بل كبداية
عاد سامر إلى البيت، لا هاربًا، بل باحثًا عن نفسه.
جلس قرب أمه،
وكان دفء البيت كافيًا ليقول له
إن الطريق لم ينتهِ بعد.
بدأ يواجه ما تركته الأيام في داخله:
الخوف،
التردد،
والخطوات التي سلكها مُكرهًا.
كانت العودة بطيئة،
لكن كل خطوة كانت تقول له إنه يستطيع أن يبدأ،
ولو من جديد.
خاتمة الطريق
اليوم، حين ينظر سامر إلى الخلف،
لا يرى السوق السوداء،
ولا الأزقّة التي كادت تبتلعه.
يرى فقط تلك اللحظة التي قال فيها “ماما”،
فانشقّ الظلّ،
ودخل الضوء من شق صغير لم يكن ينتبه إليه.
ويرى أمه واقفة عند آخر الممرّ،
تحمل نورًا بسيطًا لكنه كافٍ ليمسكه من جديد،
وتقول دون كلام:
“البدايات تُقاس بالشجاعة… لا بالوقت.”
وعندما يسأله أحدهم:
“كيف نهضت يا سامر؟”
يبتسم ويجيب:
“نهضت لأن من كان وراءه مكانٌ واحدٌ للعودة…
لا يضيع.”
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency