غياب المشروع الثقافي الجامع لدى اتحادات الكتّاب العرب في إسرائيل

د. أحمد كامل
نُشر: 23/11/25 19:59

يشهد الوسط الثقافيّ العربيّ في الداخل الفلسطينيّ حالة من التعدديّة المؤسسيّة التي كان يفترض أن تثري المشهد الأدبيّ وتوسّع آفاقه، غير أنّ هذه التعدديّة تحوّلت تدريجيًا إلى انقسام بنيويّ يضعف القدرة على بلورة مشروع ثقافيّ مشترك. ولا يمكن فهم هذا الانقسام بوصفه خلافًا طارئًا أو نتيجة توتّر آنيّ، بل باعتباره حصيلة تراكمات طويلة ارتبطت بواقع اجتماعيّ وسياسيّ وثقافيّ معقّد. فقد نشأ الحراك الأدبيّ في بيئة تتّسم بانقسامات حزبيّة ومناطقيّة واضحة، وبغياب مرجعيّة ثقافيّة جامعة تُنظّم العمل وتوجّه مساراته، إلى جانب تباين الخلفيات الفكريّة والخيارات التنظيميّة لدى الأدباء والفاعلين الثقافيين.


ويتبيّن عند تحليل هذا الواقع أنّ عدّة عوامل أساسيّة أسهمت في تكريس حالة التباعد بين الاتحادات الثقافيّة. أوّل هذه العوامل يتمثّل في تداخل الانتماءات الحزبيّة مع العمل الثقافيّ، وهو تداخل انعكس على آليّة تشكيل الأطر الأدبيّة وعلى نوعيّة الاصطفافات داخلها، ما أضعف قدرة أيّ جسم ثقافيّ على العمل بوصفه مؤسسة محايدة تستند إلى معايير ثقافيّة لا حزبيّة. أمّا العامل الثاني فيرتبط بغلبة المبادرات الفرديّة وتشتّت الجهود؛ إذ أدّت الأدوار الشخصيّة لبعض القيادات الأدبيّة، على أهميّتها، إلى بناء مؤسسات ترتبط بشخصيّات بعينها أكثر مما ترتبط برؤية مؤسسيّة مستدامة، ما جعل التنافس الشخصيّ يتغلغل تدريجيًا في بُنى العمل الأدبيّ. ويأتي العامل الثالث ليُبرز غياب مشروع ثقافيّ مرجعيّ مُتّفق عليه يحدّد أهداف الحقل الأدبيّ في الداخل، ويعرّف أولوياته، ويؤسّس لمسارات تعاون واضحة بين مختلف الأطر القائمة. ومع غياب هذا المشروع ظلّت كلّ مؤسسة تعمل ضمن رؤيتها الخاصّة، دون وجود قناة تُحوّل التعدّد إلى مصدر قوّة أو مساحة إثراء.
نتيجة لذلك، لم تنجح الأطر الأدبيّة في بناء إطار ثقافيّ جامع، بل ظلّت التحركات الثقافيّة متوزّعة على مسارات منفصلة رغم تقارب الأهداف وتشابه المهامّ. وبذلك لم تكن الإشكاليّة في تعدّد الاتحادات بحدّ ذاته، بل في عدم وجود آليات تنسيق فاعلة تُنظّم العلاقة بينها وتمنح الثقافة العربيّة في البلاد حضورًا موحّدًا قادرًا على التأثير.
ويبرز الاتحاد العامّ للكتّاب الفلسطينيين - الكرمل 48 بوصفه أحد الأجسام الثقافيّة الأساسيّة والفاعلة في المشهد الأدبيّ داخل الداخل الفلسطينيّ، إذ يمثّل إطارًا يسعى إلى رعاية الإبداع وتوفير مساحة جامعة للكتّاب والشعراء والباحثين. وتضمّ هيئته الإداريّة أمينه العامّ الكاتب مصطفى عبد الفتاح، ونائب الأمين العامّ الشاعر زاهر بولس، وسكرتير الاتحاد الكاتب زياد شليوط، إلى جانب أعضاء الأمانة العامّة: محمد علي سعيد رئيس تحرير مجلة شذى الكرمل، وأمين زيد الكيلاني مسؤول قطاع المثلث والجنوب، وفهيم أبو ركن مسؤول قطاع حيفا، وفوز فرنسيس محرّرة المواقع الإلكترونيّة، ونزيه حسون، إضافة إلى محمد كناعنة سكرتير لجنة المراقبة والفنان عماد فرو عضو لجنة المراقبة. وتشكل هذه التشكيلة بتنوّعها وخلفياتها الأدبيّة والجغرافيّة محاولة للحفاظ على حضور ثقافيّ فعّال، وهو حضور يتطلّب جهودًا جماعيّة مستمرّة في ظلّ واقع يتّسم بتشتّت تنظيميّ.
وفي مقابل هذا الاتحاد، ينشط الاتحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيين، الذي يمتلك بدوره بنية تنظيميّة واضحة وفاعلة. يرأسه د. بطرس دلّة، بينما يشغل د. أسامة مصاروة منصب نائب رئيس الاتحاد، ويتولى د. محمد هيبي منصب الأمين العامّ، وتشغل أسمهان خلايلة منصب نائبة الأمين العامّ. ويتميّز هذا الاتحاد بتنفيذ سلسلة واسعة من الفعاليات الميدانيّة، أبرزها الزيارات الأسبوعية للمدارس العربيّة، حيث يلتقي أعضاؤه الطلاب ويتحدثون عن اللغة العربيّة ويشجعون القراءة والكتابة، في محاولة لترسيخ الوعيّ الثقافيّ لدى الأجيال الجديدة. ويُعقد المؤتمر العام للاتحاد كلّ ثلاث سنوات، وتُنتخب خلاله الهيئات القياديّة بصورة دوريّة.
ورغم هذه الجهود لدى كلا الاتحادين، يبقى العمل الثقافيّ موزّعًا على مسارات منفصلة يندر أن تلتقي. فغياب التعاون المستدام وعدم وجود منصّة مشتركة أو برنامج ثقافيّ موحّد يؤدي إلى حالة من التفكك الوظيفيّ، حيث يعمل كلّ جسم منفردًا رغم تشابه أهدافه مع الآخر. والمشكلة هنا ليست في اختلاف جوهريّ في الرؤى، بل في تراكم علاقات شخصيّة وتنظيميّة وفي تأثيرات حزبيّة محليّة انعكست على بنية الحقل الثقافيّ. ويؤدي هذا الواقع إلى إضعاف القدرة على صياغة مشروع ثقافيّ منهجيّ ومشترك يخدم المجتمع العربيّ برمّته.
وتكشف قراءة متأنيّة للتجربتين أنّ كلا الاتحادين يمتلك عناصر قوّة مهمة: حضورًا أدبيًا، برامج ثقافيّة، علاقة وثيقة بالمجتمع وخصوصًا بالمؤسسات التعليميّة، وإسهامات مستمرّة في دعم اللغة العربيّة وتعزيز الأدب المحليّ. غير أنّ هذه العناصر حين تبقى متناثرة دون تنسيق تفقد الكثير من أثرها المحتمل. ومن هنا، فإنّ معالجة غياب المشروع الثقافيّ الموحد لا تتطلّب إلغاء أيّ إطار أو دمجه قسرًا، بل تستدعي تفكيرًا عمليًا في إعادة بناء العلاقة بين الاتحادات عبر إيجاد مساحة مشتركة تسمح بالتعاون وتبادل الخبرات.
إنّ المرحلة الراهنة تطرح ضرورة الانتقال من حالة العمل المتوازي إلى حالة العمل المشترك، وذلك عبر خطوات واقعيّة يمكن أن تشكّل أساسًا لبناء رؤية ثقافيّة جامعة، مثل إنشاء مجلس تنسيقيّ يجمع ممثلين عن الاتحادات المختلفة لتنظيم الفعاليات الكبرى وتحديد الأولويات، وصياغة وثيقة مرجعيّة تُحدّد المبادئ الثقافيّة العامّة، وتطوير مشاريع مشتركة تتعلّق بالمهرجانات والإصدارات والبرامج التدريبيّة. من شأن هذه الخطوات أن تُعيد بناء الثقة وأن تُسهِم في خلق مناخ ثقافيّ أقلّ انقسامًا وأكثر قدرة على التأثير.
وفي المحصلة، فإنّ إمكان الوصول إلى وحدة ثقافيّة، أو على الأقلّ إلى هيكليّة مشتركة تُنظّم العلاقة بين الأطر الأدبيّة، يظلّ قائمًا شرط توافر الإرادة المهنيّة والحوار الهادئ. فالمشهد الأدبيّ العربيّ في الداخل يمتلك طاقات واسعة وتجارب مؤسسية راسخة، وما يحتاج إليه اليوم هو الإطار القادر على جمع هذه الطاقات في خدمة هدف واحد: تعزيز الثقافة العربيّة وصياغة مشروع أدبيّ يعبّر عن المجتمع العربيّ ويحمل رؤيته وهويته إلى المستقبل.

الطيرة – 23.11.2025
 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة