على مدار أربعة عقود، سطّرت جمهورية فيتنام الاشتراكية واحدة من أنجح قصص التحوّل الاقتصادي في العالم النامي. فمن بلدٍ أنهكته الحروب والانغلاق الاقتصادي، إلى دولة مزدهرة تنافس كبرى الاقتصادات الآسيوية، استطاعت فيتنام أن تضع نفسها في مقدمة الدول الصاعدة بفضل رؤيتها الإصلاحية العميقة، وإصرارها على بناء مؤسسات قوية، وتطوير بيئة استثمارية جاذبة جعلت منها نموذجًا ملهمًا في التنمية المستدامة والإدارة الحديثة.
إصلاحات “دوي موي” البداية الحقيقية للتحوّل
بدأت رحلة فيتنام نحو التغيير عام 1986 بإطلاق سياسة “دوي موي” (Đổi Mới)، التي شكّلت نقطة الانطلاق نحو اقتصاد السوق. كانت البلاد حينها تعتمد على نظام تخطيط مركزي أثقل كاهلها وقيّد إمكاناتها الإنتاجية والبشرية. ومع انطلاق سياسة الانفتاح والإصلاح، تحولت فيتنام تدريجيًا إلى اقتصاد ديناميكي يعتمد على المنافسة، والقطاع الخاص، والاستثمار الأجنبي.
لكن الإصلاح لم يكن اقتصاديًا فحسب، بل مشروعًا وطنيًا شاملًا أعاد بناء المؤسسات، وحسّن أداء الجهاز الإداري، وكرّس مبادئ الشفافية والمساءلة. هذه الخطوات مهدت الطريق لمرحلة جديدة من النمو والاستقرار، ورسّخت أسس دولة حديثة ذات توجه تنموي طويل الأمد.
خلال العقود الثلاثة الأخيرة، اتخذت الحكومة الفيتنامية سلسلة من الإصلاحات المؤسسية الجذرية التي استهدفت تحديث الدولة وتعزيز كفاءة إدارتها. ففي عام 2025، أطلقت فيتنام برنامج “الإصلاح 2.0”، وهو مشروع شامل لإعادة هيكلة الجهاز الإداري وتقليص البيروقراطية، جرى من خلاله تقليص عدد الوحدات الحكومية وتبسيط الإجراءات الإدارية، ما خفّض التكاليف وسرّع الخدمات للمواطنين والمستثمرين على حدّ سواء.
كما أصبحت الحكومة الإلكترونية ركيزة أساسية في الحياة اليومية. فقد رُقمنت جميع الخدمات العامة بنسبة 100% عبر بوابة وطنية موحدة تعالج ملايين المعاملات شهريًا باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والبلوكشين، في خطوة تعكس رؤية فيتنام للتحوّل إلى دولة رقمية حديثة ذات إدارة فعّالة وشفافة.
هذه النقلة الرقمية لم تعزز الثقة بين الدولة والمواطن فحسب، بل جعلت بيئة الأعمال أكثر وضوحًا وجاذبية أمام المستثمرين الأجانب.
منذ التسعينيات، أولت فيتنام اهتمامًا خاصًا ببناء بيئة أعمال محفزة تحفّز الإنتاج والاستثمار. وقد تم تحديث قانون الاستثمار وقانون الشركات ليشملا حوافز كبيرة للمستثمرين المحليين والأجانب، تضمنت إعفاءات ضريبية وتسهيلات في تسجيل المشاريع وحماية حقوق المستثمرين.
وتحوّلت المناطق الاقتصادية الخاصة مثل هاي فونغ ودونغ ناي ومدينة هوشي منه إلى مراكز صناعية متقدمة تضم آلاف المصانع والشركات، وتستوعب ملايين العمال. كما أصبحت فيتنام محطة رئيسية في سلاسل التوريد العالمية بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب جنوب شرق آسيا، وبنيتها التحتية الحديثة من موانئ وطرق سريعة ومناطق لوجستية متطورة.
اليوم، تتجاوز قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) في فيتنام 400 مليار دولار، وهو رقم يعكس الثقة المتزايدة لدى المستثمرين العالميين في الاقتصاد الفيتنامي واستقراره. وتسعى الحكومة لرفع هذا الرقم في السنوات المقبلة عبر إصلاحات متواصلة تركز على تبسيط الإجراءات وتعزيز الشفافية في جميع مراحل الاستثمار.
لم تكن هذه الإصلاحات شكلية، بل أفرزت نتائج ملموسة على أرض الواقع. فمنذ مطلع التسعينيات، حافظ الاقتصاد الفيتنامي على معدل نمو سنوي يتجاوز 6%، ليصبح أحد أعلى المعدلات في العالم النامي. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 476 مليار دولار في عام 2024، مع توقع تجاوزه 500 مليار دولار في عام 2025.
أما نصيب الفرد من الناتج المحلي فقد ارتفع من 400 دولار عام 1995 إلى نحو 4700 دولار عام 2024، ما يعكس تحسنًا كبيرًا في مستوى المعيشة وجودة الحياة.
كما شهد قطاع الصادرات طفرة غير مسبوقة، إذ ارتفعت قيمتها من 5 مليارات دولار منتصف التسعينيات إلى أكثر من 500 مليار دولار اليوم، لتصبح فيتنام من أبرز الدول المصدّرة للإلكترونيات والمنسوجات والمنتجات الزراعية في آسيا.
خارجيًا، تبنت فيتنام سياسة انفتاح متوازن قائمة على التعاون الدولي المتعدد الأطراف دون الانحياز لأي محور سياسي أو اقتصادي. فقد انضمت إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ووقّعت 16 اتفاقية تجارة حرة مع أهم الكتل الاقتصادية العالمية مثل الاتحاد الأوروبي، واليابان، وأستراليا، وكندا، إضافة إلى اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) التي تضم أكثر من ملياري مستهلك.
هذا الانفتاح مكّن فيتنام من تنويع أسواقها ومصادر وارداتها، وجعلها مركزًا صناعيًا وإقليميًا لتصنيع السلع وإعادة تصديرها إلى مختلف الأسواق الآسيوية والعالمية.
أقامت فيتنام علاقات اقتصادية مع العديد من الدول في الشرق الوسط، من بينها إسرائيل، التي تربطها بها اتفاقية تجارة حرة موقعة عام 2023. ورغم أن هذه الاتفاقية فتحت مجالات جديدة للتعاون في مجالات التكنولوجيا والزراعة الذكية، إلا أن الجهد الأكبر ظل فيتناميًا خالصًا، إذ قادته الحكومة ضمن استراتيجيتها الوطنية لتنويع الشركاء وتعزيز التنمية المستقلة كما هو مع باقي الدول في المنطقة.
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1993، سعت فيتنام إلى الاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في التكنولوجيا والزراعة والبحث العلمي، لكن بطريقة تتماشى مع خططها الفيتنامية التنموية طويلة الأمد.
وشكّلت اتفاقية التجارة الحرة بين هاتين الدولتين (VIFTA) نقطة تحوّل مهمة، إذ إنها أول اتفاقية لإسرائيل تعقد مع دولة من آسيان، وأول اتفاقية لفيتنام مع دولة شرق أوسطية. حيث ارتفع حجم التبادل التجاري من 2.2 مليار دولار عام 2022 إلى 2.8 مليار دولار عام 2024، مع توقع تجاوزه 5 مليارات دولار بحلول 2027.
تستورد فيتنام التكنولوجيا المتقدمة من إسرائيل، خصوصًا في مجالات الزراعة الذكية والطاقة المتجددة والأمن السيبراني، لكنها لا تكتفي بالاستهلاك، بل تحوّل هذه التقنيات إلى قدرات إنتاجية وطنية.
ففي الزراعة، ساهمت أنظمة الري بالتنقيط الإسرائيلية في مضاعفة إنتاج الأرز والبن في دلتا الميكونغ مع تقليل استهلاك المياه بنسبة 50%. وفي قطاع الصحة، أسهمت شراكات مع شركة “تيفا فارماسيوتيكال” في تعزيز إنتاج الأدوية المحلية لتغطية ثلث الطلب الوطني. أما في التكنولوجيا، فتتعاون “فين فاست” الفيتنامية مع شركات إسرائيلية لتطوير أنظمة القيادة الذكية، مما يجعل الصناعة الفيتنامية جزءًا من الثورة التكنولوجية العالمية.
وتنظر فيتنام إلى إسرائيل كمورّد تكنولوجيا، تستفيد من خبراتها لتطوير نموذجها الخاص في الابتكار والتنمية. وبدلاً من الاعتماد على المساعدات، تحوّل هذه الشراكات إلى رافعة اقتصادية وطنية تعزز استقلالها الإنتاجي وتدعم استراتيجيتها للتحوّل إلى اقتصاد قائم على المعرفة بحلول عام 2045.
من أبرز نقاط القوة في الاقتصاد الفيتنامي ثروته البشرية الشابة والمتعلمة؛ إذ يشكّل من هم في سن العمل أكثر من 60% من السكان البالغ عددهم نحو 100 مليون نسمة. وتولي الحكومة اهتمامًا كبيرًا بالاستثمار في التعليم والتدريب المهني، ما جعل العمالة الفيتنامية مطلوبة عالميًا في قطاعات التكنولوجيا والصناعة والخدمات.
وفي الوقت ذاته، تشهد فيتنام ثورة رقمية حقيقية، إذ تحتل المرتبة العاشرة عالميًا من حيث سرعة نمو الاقتصاد الرقمي، وتعمل على تطوير مراكز بيانات ضخمة وشبكات إنترنت عالية السرعة تغطي البلاد كافة، مما يجعلها مركزًا واعدًا للشركات الناشئة والمشاريع التكنولوجية.
كما تتبنى فيتنام رؤية وطنية طموحة لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، وتعتمد استراتيجيات شاملة للانتقال إلى الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات. وتُعد الطاقة الشمسية والرياح ومعالجة المياه من أبرز مجالات الاستثمار الواعدة، وتشجع الحكومة الشراكات الدولية فيها ضمن إطار التنمية المستدامة.
اليوم، تقف فيتنام كواحدة من أكثر الاقتصادات استقرارًا وجاذبية في آسيا، ووجهة مفضّلة للمستثمرين الباحثين عن بيئة آمنة، وقوة عاملة مؤهلة، وسوق محلية كبيرة متنامية. ومع استمرار الإصلاحات والتطوير، يبدو مستقبل فيتنام أكثر إشراقًا — ليس فقط كقوة اقتصادية صاعدة، بل كنموذج ملهم لدولة نجحت في بناء نهضتها بإرادتها وعزيمتها الوطنية.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency