قراءة نقدية موسّعة لرواية الخطّ الأخضر

رانية مرجية
نُشر: 24/11/25 18:12

في عالم تتكثّف فيه الجراح الفلسطينية وتتزاحم الأصوات على أبواب الذاكرة، تأتي رواية “الخطّ الأخضر” للكاتبة رولا خالد غانم لتؤكّد أنّ الحكاية الفردية ما تزال الطريق الأصدق لفهم المأساة الوطنية.

هذه الرواية ليست مجرّد عمل تخييلي، بل وثيقة روحية ووجدانية تستعيد فيها الكاتبة قصة والدها كما تعلن في المقدّمة، وتحوّلها إلى مرآة كبيرة تعكس وجوه الفلسطينيين الموزعين بين حدود وقصص وغيابات لا تنتهي.



 

الرواية، على امتداد صفحاتها، تستعيد الذاكرة كمن يمسح الغبار عن لوحةٍ قديمة، لا لتجميلها، بل ليرى تفاصيلها كما هي: صاخبة، حزينة، متشققة، ولكنها ما تزال قابضة على الحياة.

أولًا: بين سالِف وعبد الله… حكاية جيلين يشتركان في المصير



 

تبدأ الرواية من نقطة فقدٍ مؤلمة: رحيل الأب.

لكنّ الكاتبة لا تكتب مأساة الفقد بوصفها حدثًا شخصيًا، بل كفوهةٍ مفتوحة على أسئلة الهوية والذاكرة.

سالف، ابنة الراحل، تمشي في الرواية كما يمشي الفلسطيني في وطنه:

باحثة عن جذورٍ قُطعت، وعن وجهٍ تسرّب من يدها، وعن بيتٍ لم يعد كما كان.



 

ولمّا تنتقل الرواية إلى قصة عبد الله، والد الكاتبة، نكتشف أنّه ليس مجرد شخصية مركزية، بل بؤرة دلالية تتجمّع حولها رموز الأرض والحرمان والحرية.

هو الفتى الذي كان يهرب من المدرسة ليعانق التراب، وهو الشاب الذي خُطف إلى عالم أكبر من عمره، وهو الفلسطيني الذي عاش حياته على حدودٍ صنعها الغير، لكنه لم يسمح لتلك الحدود أن تصنع روحه.



 

إنّ حكاية الأب هنا ليست حكاية رجل واحد…

إنها حكاية أبناء فلسطين الذين يكبرون قبل أوانهم، ويحملون فوق أكتافهم أثقالًا لم تُصنع لأعمارهم.

ثانيًا: الخطّ الأخضر… جرح جغرافي أم انقسام وجودي؟



 

يُعاد توظيف الخطّ الأخضر في الرواية بوصفه رمزًا يتجاوز المعنى السياسي التقليدي.

لا يعود الخطّ مجرد ترسيم حدود، بل يتحوّل إلى انشطارٍ نفسي:

حدّ يفصل بين الأب وابنته

بين الماضي والحاضر

بين ما تركه الاحتلال وما حاول الفلسطيني إنقاذه

بين القرية التي انقسمت قسرًا

وبين الإنسان الذي ضاعت خطواته في خارطة ليست خارطته



 

بهذا المعنى، يصبح الخط الأخضر جغرافيا الداخل أكثر مما هو خارطة الخارج؛

حدًّا يتسرّب إلى الوعي، ويعيد تشكيل نظرة الفلسطيني إلى ذاته وإلى مكانه.

ثالثًا: اللغة… حين تصبح الجملة مرآة للذاكرة



 

تكتب رولا غانم بأسلوبٍ يتّسع للبوح دون إفراط، وللشعر دون استعراض.

لغة الرواية متجذرة في البيئة الفلسطينية:

رائحة الشاي بالميرمية

نداءات الجارات

ضحكات الأطفال في أزقة طولكرم

بكاء الأم الذي يشبه نشيدًا خافتًا

وقع الأقدام على ترابٍ يعرف أسماء أصحابه



 

هذه التفاصيل ليست مجرد ديكور سردي؛

إنها أعمدة الذاكرة الفلسطينية التي يحفظها النص كما تُحفظ التحف الغالية:

بمحبة، وبحرص، وبوعيٍ بأنّ فقدانها هو فقدان للذات.

رابعًا: الرواية بين الاجتماعي والسياسي



 

تمتاز الرواية بقدرتها على الجمع بين:

السرد الاجتماعي الذي يرسم تفاصيل الحياة اليومية

والسرد السياسي الذي يكشف تأثير الاحتلال والحدود والانقسام على الأسرة الفلسطينية



 

من خلال قصة عبد الله، تكشف الكاتبة عن:

العمالة والخيانة

القمع والاختطاف

دور الأجهزة العسكرية

التباس الهوية بين الضفة والأردن والداخل المحتل

والانشطار الذي خلّفته اتفاقيات رسمت مصير القرى بقلمٍ لا يعرف وقع الأقدام



 

الرواية هنا لا تُدين أحدًا بقدر ما تُدين زمنًا كاملًا كان الفلسطيني فيه مجرد رقم على أطراف خارطة.

خامسًا: القيمة الإنسانية للعمل — حين يتحوّل السرد إلى فعل مقاومة



 

قوة الخط الأخضر لا تأتي من دفتر التاريخ…

بل من القلب الذي كتبته ابنةٌ تبحث عن أبيها في الذاكرة بعد أن عجزت الأرض عن إعادته إليها.



 

الرواية هنا تُعيد الاعتبار إلى القصص الصغيرة؛ إلى حكايات الأشخاص الذين لم يكتبوا بيانات سياسية، لكن حياتهم كانت — في حقيقتها — شهادة يومية على البقاء.



 

اختارت الكاتبة أن تحكي قصة والدها لتقول:

إنّ الأب الذي ذهب، لم يذهب.

وإنّ الرجل الذي عبر الحدود، لم يعبر الذاكرة.

وإنّ الفلسطيني، مهما قُسّم وطنه، لا تُقسَّم روحه.

خاتمة: الخط الأخضر… حدودٌ تتلاشى حين نحكي قصصنا



 

من يقرأ الخط الأخضر لا يخرج منه كما دخل.

فالرواية تذكّرنا بأنّ التاريخ ليس ما يُكتب في الكتب، بل ما يُكتَب في صدور الناس.

وتذكّرنا بأنّ الأب، حين يرحل، يترك خلفه ما هو أثمن من الحكاية:

يترك ذاكرةً تُكمل الطريق.



 

هذه الرواية، ببنيتها الهادئة ولغتها الدافئة وشهادتها الإنسانية، تليق بأن تكون جزءًا من أرشيف القدس الثقافي؛

أرشيف يخاصم النسيان، ويُنصف الوجوه التي عبرت الأرض بصمت، تاركة خلفها أثرًا يشبه الوطن

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة