الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 03:02

المدرسة والحرب-حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 21/02/21 12:56

من ذلك البيت في قمة الجبل ذهبت الى المدرسة التي بناها عمي مختار القبيلة من ماله الخاص ووهبها للعشيرة ، وقد كان لا يعرف القراءة او الكتابة، لكنه كان مثقفا من الطراز الأول. ذهبت إليها مرتدياً الدشداشة وحاملاً حقيبة مصنوعة من القماش المطرز باليد ، تشبه حافظات الفتيات المراهقات. الحقيبة كانت جميلة في رأي الجميع ، لكنني لم أحبها لسبب أخفيته عن الآخرين دائما، ولم اقله لأحد ربما بسبب عدم تأكدي من صحته. أخفيته كل تلك السنين الطويلة لكن لا مانع عندي اليوم من البوح به وهو أن تلك الحقيبة رغم أنها كانت مزينة بالكثير من الرسومات المطرزة باليد كانت تشبه المخلاة التي استعملها والدي لإطعام فرسه الأصيلة. لم يقل لي احد ذلك لكنني كنت شبه متأكد من أن الجميع انتبهوا إلى ذلك الشبه، لكنهم احتفظوا بذلك لأنفسهم ولم يجرؤوا على البوح به لأنني ابن أخ المختار ووحيد والديَّ ولم يرد أحد المساس بقدري. ولو كنت من عائلة من عامة العائلات لفضحوني.

من بيتنا في قمة الجبل راقبت العدوان الثلاثي على مصر وكان عمري ست سنوات. كنت أجلس على شباك بيتنا من ناحية الجنوب وأراقب السماء فوق جبال الكرمل وهي تضيء عند انفجار القذائف المتساقطة على بور سعيد والسويس .بخيال طفل كنت أسمع دوي القذائف وأرى البرق في السماء. عشت هذه الحرب ككل أفراد الأسرة دقيقة بدقيقة. كنا نبكي خوفا على مصر ونحلق في السماء على صوت جمال عبد الناصر عبر المذياع. من يومها علق في الذاكرة خيط يربط ما بين السماء وجبال الكرمل موشحا بالبرق الذي يخلط الغيمة بالبحر والقذيفة بالحياة .
بيتنا كان في الجهة الجنوبية في قمة الجبل والمدرسة كانت في الجهة الشمالية في سفح جبال الكمانة. ذهبنا إليها مشيا على الأقدام فحفرنا مسربا بين شجيرات البلان المتلاصقة وصخور الجليل الزرقاء. وصلتُ المدرسة كغيري من أبناء القبيلة تحت زخات الرصاص ، التي شكلت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. كنا نختبئ منها بالانبطاح على الأرض أو بالاختباء وراء الصخور العالية. زخات الرصاص هذه كانت شيئاً عادياً. الشيء غير العادي الذي كان يحدث بين الفينة والأخرى هو دوي انفجار القذائف بين البيوت. لذلك أحببناه وربما انتظرناه غير دارين بما يعنيه. أما متعتنا الحقيقية فقد كانت التفرج على الطائرات الحربية وهي تلقي بحمولتها من المتفجرات. كانت تنزل من السماء كالصقور المنقضة حتى تلاصق الأرض تقريبا ثم ترتفع بزاوية حادة مخلفة وراءها كتلة ضخمة من الدخان الكثيف يليه انفجار شديد.
إنه منظر ممتع ولعبة رائعة ترفع الرأس وتشد الانتباه، لكنها لا تستعمل هذه الأيام لأسباب كثيرة أهمها أن التطور التكنولوجي أوجد المضادات الأرضية للطائرات الذي أجبر منتجي هذه الطائرات على إيجاد الطرق التي تمكينها من إلقاء حمولتها من ارتفاع شاهق وإصابة الهدف بدقة كما يحدث في غزة واليمن هذه الأيام .
لم أربط يومها بين الرصاصة والموت ، بين القذيفة والموت ولا بين الطائرة والموت. ربما ظننتها جزءا لا يتجزأ من الحياة. بل تحولت فعلا إلى جزء لا يتجزأ من حياتنا ، في قلب منطقة تخضع كلها للحكم العسكري .
هذه المنطقة محاطة بشكل دائري بالقرى : شعب، سخنين، عرابة، دير حنا، المغار، الرامة، نحف ، دير الأسد، البعنة ومجد الكروم . على حدودها أقام الانجليز أعمدة من الاسمنت على شكل الحرف T بالانجليزية كعلامات لحدود هذه المنطقة المغلقة على من فيها من بشر وحيوانات برية.
كانت المدرسة عبارة عن غرفتين، في كل غرفة أربعة صفوف. في إحداهما
من الصف الأول حتى الصف الرابع ، وفي الثانية من الصف الخامس حتى الثامن يفصل بينهما حاجز لا يصل السقف ، مما جعل الأصوات تختلط وتتشابك بسهولة ودون عناء. أما الطاقم التدريسي فكان مكونا من معلمين اثنين احدهما هو المدير أيضا. قدما من القرى المجاورة احدهما وهو المدير على فرس والثاني وهو المعلم على حمار .لا أدري إن كان ذلك صدفة أم لحفظ المقامات.
تعلمنا بشكل جماعي واستفدنا كثيرا من هذا الأسلوب فكان بيننا إما المتفوق وإما العدم. بالضبط كالنظام الرأسمالي الصرف الذي تنعدم فيه الطبقة الوسطى. ومع الوقت كان المتفوق يزداد تفوقا والعدم يزداد عدمية وأمية. فهمنا بعض الأشياء وحفظناها ، وبعض الأشياء حفظناها من دون أن نفهمها. حفظنا :
عيد استقلال بلادي
غرد الطير الشادي
عمت الفرحة البلدان
حتى السهل والوادي .
كنا نردد هذا النشيد بين الحين والآخر وبناء على طلب الأستاذ. في البيت نسمع غير ذلك وننتظر مع المنتظرين . الجميع يتحدث عن نكبة. بيوت هدمت. ناس قتلت. قرى مسحت واختفت. أناس هربوا وتركوا كل شيء. ومنهم عائلة زيتون من شعب التي تقاسمت الخيمة مع عائلتي بعد أن فرت مع الفارين من القرية. أرى وأسمع كل ذلك وفي المدرسة أغني ل "عيد استقلال بلادي ."
الطاقم التدريسي في قمة الإخلاص والعطاء خصوصا عندما كان والدي يدعوهما للمبيت عندنا ويذبح لهما ديكا أو دجاجة بلدية ويقدم العشاء من الشعير الصافي للفرس وللحمار أيضا إكراما لصاحبيهما. في اليوم التالي كنت أحظى بالكثير من الإطراء والاهتمام عرفانا وردا لكرم والدي مما جعل زملائي لا يجرؤون على التعليق على حقيبتي المصنوعة من القماش المطرز. لولا ذلك لكانت حديث وسخرية الجميع ككل شيء جديد وغريب في القرية .
في تلك المدرسة فككت الحرف وتعلمت القراءة والكتابة. ومنها خرجت أول رحلة خارج مضرب القبيلة. أخذنا الأستاذ إلى مدينة عكا التي أحببتها وانغرست في وجداني لأنني ظننت أنها آخر الدنيا. لم أعلم أن وراء البحر ما وراءه. كنت أنتظر مع المنتظرين أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه.
كان الرصاص شيئا عاديا بالنسبة لنا ، فهو أول ما سمعناه بعد أن ولدنا. إلا أن الطاقم التدريسي لم يستسلم للواقع فطلب احدهم منا أن نجمع له الرصاص المتساقط ليرسله إلى وزارة المعارف لتقوم بدورها بالطلب من وزارة الدفاع وقف هذه المناورات لأنها تشكل خطرا على حياتنا. خلال أيام جمعنا له كمية كبيرة من الرصاص الملتوي نتيجة ارتطامه بالصخور وكما يبدو قام هذا المعلم بتقديم هذه الكمية إلى وزارة المعارف. لم يمض وقت طويل حتى جاء أمر عسكري ليس بإلغاء المنطقة كمنطقة عسكرية وإنما بإغلاق المدرسة لأنها – أي المدرسة – تشكل خطرا على الطلاب .!!
لم تكن هذه هي غاية المعلم لكن سكان القرية اتهموه بذلك وألصقوا به تهمة التسبب في إغلاق المدرسة . فالقبيلة تحارب من يخرج على الروتين أو يشذ عن مزاج القطيع .
كان عمي المختار قد سلم ختمه لأبنه الشاب الذي يجيد القراءة والكتابة، وقد كان ابن عمي هذا تربطه علاقة طيبة بالحاكم العسكري ولا يحب إغضابه أو مخالفة أوامره .
ذهب والدي إلى إحدى القرى المجاورة واتفق مع احد المعلمين العاطلين عن العمل أن يأتي إلى القرية ويدرس الطلاب مقابل ما يفيض من أنفس الأهالي من نقود. كان هذا المعلم وكان اسمه أحمد طه على ما أظن، وهو من قرية دير الأسد، قديرا جدا فقام بعمله على أحسن وجه ولم يسأل عن أجر أو ما شابه ذلك. قالوا في القرية إنه فصل من عمله بسبب مواقفه الوطنية ولأنه مخلص لطلابه. هذا الأستاذ حدثنا عن أشياء لم نسمع بها من قبل قال لنا إنه يملك في البيت جهازا يستطيع بواسطته رؤية أشخاص والاستماع إلى أشياء يقولونها بعيدا جدا وهذا الجهاز يسمونه تلفاز. قال لنا إنه يسمع بواسطته أحاديث رئيس مصر حمال عبد الناصر ويراه أمامه. لم نفهم قصد الأستاذ لكننا صدقناه فالأستاذ لا يكذب، خصوصا انه وعدنا بأخذنا إلى بيته لنرى ذلك الجهاز .
في تلك الأيام كان للمعلم هيبته ووقاره في أعين طلابه وفي أعين الأهالي. كنا نوقره لدرجة القداسة. ونستمع إليه بإصغاء شديد ، فهو يتكلم بصوت منخفض وبهدوء. يلفظ الكلمات وكأنه يطلب منا أن نتذكرها واحدة واحدة، ويكرر الجمل وكأنه غير متأكد من قدراتنا .
وقرناه كثيرا لكنه قفز من الشباك وهرب . الأستاذ يهرب من الشباك ؟! إنه أمر مخيف، غريب ومذهل في أعين طلاب لا يعرفون ما يجري . من يومها صار الهروب شيئا مقبولا لكنني لم استطع ممارسته . ليتني استطعت .
كانت المنطقة منطقة عسكرية مغلقة وكل من يريد الدخول إليها عليه الحصول على تصريح من الحاكم العسكري . هذا المعلم كان يدخل بدون تصريح لأنهم رفضوا طلبه . لذلك فر من الشباك عندما شعر بقدوم الشرطة العسكرية أو ما كنا نسميه ال ام-بي. فر المعلم ورأيناه يتوارى بين أشجار السريس ، فخرجنا من المدرسة لنجد الحاكم العسكري برفقة الشرطة العسكرية يجلس في الشرفة في بيت المختار المحاذي للمدرسة وهو يقدم لهم القهوة وبعض التضييفات .
انهزم الأستاذ وأغلقت المدرسة مرة أخرى ووجدنا أنفسنا بدون إطار تعليمي . وددت لو اهرب مثل الأستاذ . لا أدري إلى أين ، فقط أن اهرب.
فرحت بما حدث لكنني أخفيت فرحي حتى لا أخيّب ظن والدي . هذا الظن قيد حريتي ، خنقني وجعلني أكبت كل نزواتي وأحلامي الصغيرة ، حرمني من مرحلة الطفولة فبدأت حياتي شابا أو رجلا وربما كهلا .
***
حسين فاعور الساعدي
 

مقالات متعلقة