العمل… حين يصبح الإنسان أقرب إلى نفسه

هناك لحظات لا نستطيع أن نفهم فيها معنى التعب إلا حين نعود إلى أنفسنا في آخر النهار،

فنكتشف أن ما حملناه على أكتافنا لم يكن ثقل المهام فقط،

بل ثقل الأيام، وثقل الأسئلة التي لا تجيبها الحياة بسهولة.

والعمل، بمعناه الأعمق،

ليس مجرد وسيلة للعيش،

بل وسيلة لنبقى حاضرِين في حياتنا،

ألا نفلت من أيدي أنفسنا،

ألا نتحول إلى صدى بعيد لا يسمعه أحد.

العمل الذي ننجزه بصدق يشبه حديثًا خافتًا بيننا وبين أرواحنا.

نتعلم منه ما لا يُقال،

ونفهم عبره ما لا يُدرّس،

ونكتشف أننا—رغم التعب—لسنا ضعفاء كما نعتقد.

فكل خطوة نخطوها ونحن نحاول،

وكل محاولة لا تكتمل،

وكل مرة ننهض فيها قبل أن يرانا أحد…

كلها تشكّل تاريخًا صغيرًا داخلنا،

تاريخًا يمنحنا القوة دون أن نصطنعها،

ويعلّمنا أن الإنسان يُصنع من محاولاته أكثر مما يُصنع من نجاحاته.

ليس مهما أن يصفّق لنا أحد،

ولا أن يرى العالم ما أنجزناه.

ما يهم حقًا هو ذلك الإحساس الدافئ بأننا لم نترك يومنا يمرّ بلا أثر،

وأن شيئًا صغيرًا في داخلنا أصبح أكثر وعيًا، أكثر اتزانًا، وأكثر قربًا منا.

فالعمل ليس منافسة ولا سباقًا،

بل مساحة نختبر فيها قلوبنا:

كيف تخفق حين تتعب،

كيف تصبر حين تتألم،

وكيف تجد نورها الصغير رغم انقطاع التيار من حولها.

وفي الأوقات التي نشعر فيها أننا نراوح في المكان،

يأتي العمل ليذكّرنا بأن الحركة—حتى لو كانت بطيئة—أفضل من السكون،

وأن الإنسان لا يُقاس بما يصل إليه،

بل بما لا يتوقف عن المحاولة للوصول إليه.

هذه المحاولات الصامتة التي لا تُرى،

هي ما يجعل الإنسان أعمق،

وأهدأ،

وأقوى من داخله.

وحين نضع القليل من محبتنا في ما نفعل،

يتحوّل العمل إلى شيء يشبه البلسم:

يشفي أجزاءً منا لا نعرف أنها كانت مجروحة،

ويعيد إلينا ثقتنا بأن الحياة، مهما ضاقت، ما زالت تمنحنا فرصة لنضيف إليها ولو لمسة بسيطة تعكس من نحن.

في النهاية، العمل ليس ما نفعله،

بل ما نخرج به من كل تجربة.

هو النافذة التي تسمح لنا بأن نرى أنفسنا،

وأن نعرف ما الذي يجعلنا أقوى،

وما الذي يجعلنا أكثر إنسانية.

وهذه، في الحقيقة، هي القيمة الأكبر:

أن نعود من العمل ونحن نشبه أنفسنا أكثر،

وأقرب إلى قلوبنا مما كنّا عند بداية اليوم.