الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 18:01

السفر إلى البقعة/ بقلم: عناق مواسي

عناق مواسي
نُشر: 25/08/21 10:22,  حُتلن: 11:01

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

يبدأ حبي للقدس عندما تنعطف الطريق وتندمج الى أن تتفرد في شارع 1. باعتباره الأبهر في قلب البلاد المؤدي الواصل الى القدس. وطالما حلمتُ أن أسكن في القدس، لكن الله كان أكثر كرمًا مني، وأسكن القدس في قلبي، القطن المحشو في السحاب ، وأسراب الاشجار المرتبة على السلاسل السماوية، وعلى جدران القصور الحجرية، والنباتات التي المتعمشقة غير المهذبة والحبق والمداد رافقتٌ الطريق حيث وصلنا إلى البَقعَة.

 


ولدتُ وكبرتُ وتعلمتُ وأسكَنُ ولا زلت في مدينتي بأقة باقة الغربية وعلى لسان الأجنبي غير العربي تسقط الألف عين يلفظون الكلمة كأنها بقعة أو بقعة. ولم أتيقن في بادئ الأمر من المكان الذي سنذهب إليه يوازي صوتًا باقتي وبقعة أصلي.
وعند التغلغل في المدينة المقدسة، تُصبِحُ المسافات بين المارة والناس والمباني واللافتات أقرب ، يزيد الاقتراب من التاريخ والخيال وإن جيء على المعالم أو ردع الصدء عن لا يزال هناك تاريخ حاضر في الغياب.
انتقلتُ للعيش في حي البقعة في القدس، تبعدُ البقعة عنا باقة مسافة 75 كم جنوب شرق، هناك سيجري الشعر في نهري، وسأفتح سد انشغالات الحياة لتتدفق من قلبي القصائد وتروي ضفافي، منحة التفرغ للشعر تحتاج فعلاً بقعة حب وبقعة ضوء وبقعة من قلب المدينة المقدسة.
أول ما لفتَ انتباهي أسمها فهي لا تلفظ بضم الباء بل بفتح الباء وإطلاق بقية الحروف صداحة في الحنجرة. وعلى بعد 100 متر من بيتي في شارع بيت لحم (الذي كان قبل قيام الدولة وبقي على إسمه) محطة وطريق سكة الحديد القدس – يافا العثمانية.
كنتُ أمشي مع الشمسٍ حين توشك على الغياب، على طول السكة حتى تصل إلى المالحة وهي قرية فلسطينية تهجرت أيضًا وبقي منها الذكريات المالحة والإسم.
أُنشئ الحيّ على أراضٍ تابعة للكنيسة الأرثوذوكسيّة، الّتي أعلنت في تلك الفترة عن بيع هذه الأراضي في محاولة لسدّ ديونها. وكانت العائلات الّتي اشترت هذه الأراضي هي عائلات فلسطينية عربية مسلمة ومسيحية من الطبقة المتوسّطة فما فوق. بالإضافة إلى ذلك سكن بعض السكان الأجانب هذه الأحياء وقد كان معظمهم مستأجرين وليسوا ملّاكين.
البيوت على ضفاف الشارع قصورٌ جميلةٌ جداً من الحجر الملوّن، طرازها عربي إسلامي ومسيحي، تتدلى الورود من الأصص المُعلقة على الشرفات ويتعمشق اللبلاب الى الأعالي ويظلل الطريق.
وحي البقعة أو حي الورود، بيوت وحكايا عربية واضحة المعالم، فقد شيدتها عائلات فلسطينية عديدة منذ نهاية القرن التاسع عشر. أحد هذه القصور لخليل السكاكيني الذي خرج من بيته في الثلاثين من نيسان عام 1948 المؤلف من طبقتي حجر ما زال موجوداً ويستعمل الطابق الثاني فيه كحضانة اطفال فيما تسكن الطابق الاول عائلة اسرائيلية.
خليل السكاكيني سكن في القطمون منذ 1933 حتى ثماني وأربعين.
خليل السكاكيني استأجر بيت في البقعة منذ 1916 حتى 1933 في الطابق العلوي من سينما سمدار اليوم والتي سميت سينما ريجيني آنذاك.
حي البقعة، أقيم لعائلات مسلمة ثرية من البلدة القديمة في سبعينيات القرن التاسع عشر، وسكنته أيضا بعض العائلات المسيحية الثرية، وفي 1892 تم بناء محطة القطار فيه، وبلغ عدد سكانه في 1947 حوالي 5 آلاف نسمة.
فقط نصف أراضي الحي كانت ملكًا للكنيسة أما الباقي فكان للمسلمين من عائلات أو أراضٍ لأناس من القرى القريبة كالمالحة.
ولما كانت تختنق عليّ لياليّ، وشوقي لبيتي وأولادي وعائلتي في باقة الغربية، كنت أمشي مع سكة القطار الذي انشيء عام 1892 ، حيث انشئ الألمان المستعمرين مستعمرة ألمانية في البقعة سميت
" الكولونية ألألمانية" وعندما أصبح الوضع آمناً بنى العرب بيوتهم في البقعة التحتا فأصبحت البقعة التحتا كلها منازل عربية ، وأثناء الحرب العالمية الأولى» بيعت أرض كانت وقفاً للكنيسة الارثوذكسية وأنشيء نادي . لا تزال الأبواب والشبابيك بأيقوناتها وكالصلبان أو شكل الشبابيك على شكل حرف ال T أو الأقواس شاهدة على التاريخ وعلى من مروا من هنا.
رافقنا المرشد أنور بن باديس وهو أبن لأب جزائري وأم مقدسية من حي البقعة والشهيق في الأمر أن هذه الجولة بتفاصيل الحكايا تحكى على يد راوٍ تربطه صلة رحم مع الزمان والمكان. ولكنها جاءت في اليوم الأخير المتمم للشهر . وسردَ لنا الحكاية بوجعها، بحلوها، بمرها ولكن الأهم أبقى الحقيقة من خلال زجاج شبابيك القصور الملونة حين تنعكس بها أشعة الشمسِ ولا تنكسر.
واكتشفنا لاحقًا أن القصر الذي سكنا به نحن الشعراء والشاعرات على مدار أربعة أسابيع كان لمالك عربي فلسطيني وأنه أشغل ذات مرة كمطبعة كتب.
التفاصيل والسرد الجاري نهرٌ لم يتوقف هنا ولن يتوقف، فالبيوت والقصور متعة حضارية وفن معماري ممزوج بالحضارة الحديثة ونكهة الماضي العريق، هجرت العائلات وتهجرت القصص، مثل سنابل تتمايل مع الريح وتتناثر الحبوب في السهول البعيدة، وتنمو هناك قصص اخرى.
البُقعة بضم الباء ضوءٌ يتنشر في المدى، والبَقعة بفتح الباء تاريخٌ يعبقُ بين الورود.
هذا الجمال الاسر وهذه الرحلة المميزة الى خارج المألوف، بجواز سفر ي التاريخي والجغرافي، هدية حظيتُ بها على بعد مسافة بين الباقتين أو البقعتين وولوجي عالم الشعر من خلال مشروع بستان، دفيئة الشعر – المكتبة الوطنية في القدس.
 

مقالات متعلقة