الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 21:02

المهندس منهل مصري: الفنان والعامل والفلاح الذي زرع شجرة لن تجفّ أبدًا

اسامة مصري
نُشر: 27/10/21 00:15

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

ها أنا أكتب إلى من يهمه الأمر وإلى التاريخ عن شقيقي الراحل منهل مصري... هو من مواليد مدينة عكا القديمة (1955)، نشأ في تلك الحواري والأزقة لعائلة فقيرة، سجّلت تعدادها فيما بعد، (10) أنفار، الأب حسن مصري، الأم ميسّر قدورة، وأخوة: نهلة، أسامة، قاسم، علي، منير، ميسرة، عواطف.

ما سأرويه لكم من تفاصيل عن منهل، ليست من قبل التعصب العائلي كونه أخي، بل هي حقائق يعرفها العديد من الناس، رغم أن بعضها خفيت عن البعض.
كيف تحوّل منهل إلى أصغر طالب بالسن والحجم؟
درس منهل في طفولته في مدرسة التيراسنطا في عكا، وهي مدرسة أهلية تتبع الكنيسة الإيطالية، وكانت تعتبر في حينه، وأعتقد ما زالت كذلك، أنّها مدرسة مميزة للطلاب المتفوقين وتضم طلاب من جميع الطوائف، وقد درس فيها العديد من الطلاب الذين حضروا من القرى المجاورة للمدينة.
كان منهل من المتفوّقين في الدراسة، ممّا أدّى إلى أن يتخطى سنة دراسية ويصبح فيما بعد، أصغر طلاب صفّه. في نفس الوقت، اختارته المعلمة سهام منسّى، ليشارك في التمثيل في جميع المسرحيات التي كانت تعدّها خلال السنة الدراسية، وقد مثّل مسرحيات عديدة وبأكثر من لغة، منها العربيّة والفرنسيّة وغيرها.
في تلك المدرسة يكون التعليم مجاني حتّى صف الثامن، وفي نهاية السنة الدراسيّة، كان يقام امتحان لجميع الطلاب يسمّى "امتحان الثوامن"، وفقط من ينجح بهذا الامتحان يستطيع أن يحصل على التعليم المجاني حتّى الصف الثاني عشر، وكان منهل من بين الناجحين.
في تلك السنوات، امتاز منهل، ورغم صغر حجمه، امتاز بدماثة خلقه وطرافته، وقد كوّن بفضل ذلك صداقات عديدة من داخل المدينة وخارجها، وكان اجتماعيًّا بشكل كبير، وقد حوّل غرفته الخاصّة في بيت أهله في عكا القديمة، إلى مقر يجتمع فيه أصدقاءه الكثر، وكان من بينهم بعض المدرّسين. ومن هذه الغرفة، خرجت أفكار ومبادرات ثقافيّة وفنيّة عديدة، وقد تشكّلت الفرق الموسيقيّة، والنوادي والندوات وغيرها.
انضمامه للشبيبة والحزب الشيوعي
خلال فترة المراهقة، انضم منهل إلى صفوف الشبيبة الشيوعية، بفضل بعض المدرسين الذين كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي بشكل سري، ومنهم الراحل د. أدوار الياس، وقد شار في حينه بالانتفاضة الطلابية التي اجتاحت طلاب التيراسنطا، إثر قرار طرد المدرسان أدوار الياس ويعقوب حجازي، نتيجة لمواقفهم الوطنية ولعلاقتهم بالحزب الشيوعي.
بعد انهاءه دراسته الثانويّة، لا أعرف بالتفاصيل الدقيقة، كيف قام أكبر مسرح "الناهض" وهو أكبر مسرح عربي في البلاد آنذاك، باحتواء منهل وضمّه إلى صفوفه ليصبح أصغر ممثل محترف في البلاد، وقد شارك في دور صغير في مسرحية "وبعدين" التي أخرجها في حينه أديب جهشان.
في تلك الفترة، قرّر منهل أن يستريح من الدراسة لمدّة سنة ويعمل في شركة للبناء، ليجمع بعض النقود تساعده في التعليم الجامعي فيما بعد، وهناك، رشّح نفسه ليكون عضو في نقابة العمال ممثلا عن الحزب الشيوعي. فثارت ضده المخابرات وقد تمّ استدعاءه للتحقيق في مركز شرطة عكا، وقد عرف في حينه أن أحد أقاربه وهو عضو في الحزب الحاكم، كان يحثّه وبمساعدة الشرطة أن يبتعد عن النقابة والحزب الشيوعي.
كان من السهل في تلك الحقبة من الضغط على الأهل، بالتهديد والوعيد، ليبعدوا منهل عن الطريق الذي اختاره، لكن الحزب ألكم هؤلاء حجرًا كبيرًا، حيث وفّر لمنهل منحة تعليمية جامعية لمدّة ست سنوات في الاتحاد السوفييتي، وما أن انتهت السنة، حتى كان منهل يدرس في أوكرانيا السوفييتية.
الممثل منهل في قسم الهندسة المعمارية
عندما سئل منهل عن الموضوع الذي يريد أن يدرسه في خارج البلاد، أجاب بدون تردد: المسرح... وهنا قامت القيامة عند رفاق الحزب، وأعلنوا رفضهم الكامل للفكرة، وكانت حجّتهم، أن منهل من عائلة فقيرة وعليه أن يتعلم مهنة تعود عليه وعلى عائلته بالربح المادي وليس المسرح الذي لا يطعم خبزًا، وفرضوا عليه دراسة الطب، وقد سافر إلى الاتحاد السوفييتي، مع هذا القرار، لكنّه هناك، بحث عن مهنة أخرى تدر الربح وفيها بعض الفنون، فاختار الهندسة المعمارية، خاصّة أنّه كان يهوى الرسم إلى جانب هواياته الأخرى.
هاجس المسرح لم يفارقه أبدًا، فمع انتهاء العام الدراسي الأول، ونظرًا لأنه لم يستطيع تقديم ما هو باللغة الروسية، قام بكتابة مشهد بانتوميم صامت بعنوان "كوميديا الخلق"، وقدّمه أمام الطلاب الروس وكل الأجانب الذين قدموا للدراسة هناك، وعلم الجميع بأن هذا الطالب، ما هو إلا فنان مسرحي، وكان لهذا المشهد تداعيات كبيرة فيما بعد، سآتي عليها بالتفصيل في سياق آخر.
استمر منهل في هوايته المسرحية وأيضًا في دراسته الهندسة المعماريّة، إلى أن حصل على شهادة الماجستير، وكانت رسالته في الماجستير هي تصميم للجامعة العربية التي كان مزمع إقامتها في مدينة الناصرة، حيث كان يدور الحديث عنها آنذاك. وهنا نرى مدى وطنية منهل، فقد اختار عمل هندسي معماري، ليس بهدف النجاح في الجامعة فقط، بل ليستفيد منه شعبه العربي الفلسطيني فيما بعد، إذا احتاج إليه. أعطى للجميع ولم يأخذ لنفسه شيء، وكان آخر ما كتبه على صفحته في الفيسبوك، اقتباس للثائر تشي جيفارا: "لا يهمني أين ومتى سأموت، بقدر ما يهمني أن يبقى الثوار يملئون العالم ضجيجًا، كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء والبائسين والمظلومين.
لقد كان أول أكاديمي في عائلة المصري التي تسكن في جديدة، وبعده كان العديد من أفراد العائلة وقد وصل عددهم ما يقارب العشرين أكاديمي.
بذرة الفن والشجرة التي خلفها منهل
لن أتحدث عن البذرة اليسارية التي زرعها منهل في العائلة، لأنها كانت أوسع من ذلك بكثير، فقد امتدت لتشمل الكثير من المعارف والأصدقاء، وقد وصمنا جميعنا في داخل العائلة باليساريين الذين نؤمن بمساعدة الغير، دون أن ننتظر جزاء في الجنة ولا خوفًا من عذاب النار...
سأتحدث عن البذرة الفنية التي ترعرعت وأصبحت شجرة كبيرة... لم تسقط التفاحة بعيدًا عن الشجرة، فقد كان والدنا حكواتي، يروي لنا القصص التي حفظها عن ظهر قلب، ولم نكن نعرف مصدرها، إلا عندما كبرنا وقرأنا قصص "ألف ليلة وليلة" و "كليلة ودمنا" وغيرها... وكانت والدتنا تحب الغناء، تغني لنا بأكثر من لغة، وروت لنا أنها كانت تغني مع جوقة المدرسة في طفولتها مع صديقتها سهام منسى، التي أصبحت معلّمة فيما بعد، وقد اكتشفت هذه المعلمة موهبة شقيقي منهل في التمثيل وضمته إلى الفرقة المسرحيّة المدرسيّة، وكنّا نسمع ونشاهد ما يقدمه من أعمال فنّيّة، ممّا حدا بي أن أقلده فيما بعد، ولكن في مجال التأليف الكوميدي وتقديم بعض الفقرات الكوميدية في الاحتفالات المدرسية، إلى جانب ذلك، كنّا نرى الفرق المسرحية التي تأتي إلى المدرسة وتقدم أعمالها المسرحية، وبصراحة كنت أعتقد أن هؤلاء الممثلين جاءوا من كوكب آخر، وكأنهم سحرة وما شابه، لكنّ المفاجأة كانت عندما أنهى شقيقي منهل دراسته الثانوية وانضم إلى فرقة مسرح الناهض، وهو أكبر مسرح عربي آنذاك، حينها شاهدت أخي على خشبة مسرح حقيقي مع هؤلاء الممثلين الذين كنت أعتقد أنهم من عالم آخر، فأيقنت أنّهم مثلنا، فها هو أخي بينهم، ويمكن أن أكون أنا أيضًا بينهم... في ذلك الحين، قرّرت إلى جانب الكتابة أن أمثل أيضًا، وأصبحت أستمع لشقيقي منهل بشغف لما يدور خلف الكواليس المسرح، فتولعت بالأمر، وبات هاجس المسرح لا يفارقني، فقدمت العديد من المقاطع المسرحية... في نفس الوقت، قام شقيقي منهل بإدخال أشعار أحمد فؤاد نجم، حينها لم يكن يعرفه أحد، وطلب مني حفظ هذه الأشعار وتقديمها في المناسبات الوطنية.
عندما عاد منهل في أول عطلة من الدراسة الأكاديمية من الاتحاد السوفييتي، أخبرني عن المشهد الصامت الذي قدمه هناك، وأعاد تقديمه أمامي، عندها قرّرت أن أقيم فرقة للتمثيل الصامت مع شقيقي الصغير ميسرة، وكتبت عدّة مشاهد صامتة لذلك، وقد استعنت بباقي أشقائي لتقديم هذه المشاهد، وأطلقنا اسم "فتافيت السكر" على فرقتنا، وبسرعة البرق، أصبحنا معروفين في جميع أنحاء البلاد، لا تفوتنا مهرجانات أو أي مناسبات احتفالية، إلى جانب تقديم أشعار وأغاني أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام...
بعد فترة، انضممت كممثل محترف إلى فرقة مسرح "الكرمة" في حيفا وتركت فرقة "فتافيت السكر" وتولّى شقيقي ميسرة قيادتها، بعد أن ضم إليها أولاد خالتي: خليل وإبراهيم وإسماعيل قدورة، وتحولت الفرقة لتقديم المشاهد الكوميدية وليست الصامتة.
في تلك الفترة، توجّهت لدراسة الفنون المسرحية، في معهد "بيت تسفي"، ولم استمر في الدراسة لأنني قرّرت التوجه إلى القاهرة للدراسة، لكن شقيقي ميسرة التحق في نفس المعهد وأنهى دراسته للفنون المسرحية هناك.
لن أدخل في تفاصيل حياتي الفنية ولكن أريد أن أشير إلى أن كل ما أنجزته وأنجزه شقيقي ميسرة، كان من تلك البذرة التي زرعها شقيقنا الأكبر منهل مصري.
لنقم بجرد الأسماء التي اتجهت للفن من تلك البذرة:
أنا أسامة مصري: لدي ولدين يمتهنون التمثيل والغناء والعزف، أحدهم درس الفنون المسرحية والتلفزيونية والسينمائية في كندا، وشارك في أفلام عالمية.
شقيقي ميسرة مصري: لديه بنت تمتهن التمثيل والغناء والعزف، وابنه الصغير كما يبدو يسير على نفس الطريق.
كريستين مصري، ابنة منهل، درست الفنون المسرحية والتلفزيونية والسينمائية في كندا، وشاركت في العديد من الأعمال الفنية.
أولاد خالتي: خليل وإبراهيم وإسماعيل قدورة، ولهم أبناء يسيرون على نفس الدرب. خليل قدورة، تزوج من شقيقتي عواطف وهي ممثلة محترفة، وجميعهم قدموا العديد من الأعمال الفنية.
كما أن هناك ابن شقيقتي نهلة الذي يعمل تقني فني صوت وإضاءة.
وما زالت الشجرة الفنية تورق وتبرعم، وكل ثمرة تقول: لروحك السلام يا معلمنا منهل المصري، فنحن ذكراك وسائرون على دربك، نزرع ونزرع ليحصد مجتمعنا الفلسطيني أطيب الثمار.


 

مقالات متعلقة