الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 23:01

حنّا بماء الورد والحنّاء

كتبَ: وهيب نديم وهبة

وهيب نديم وهبة
نُشر: 12/02/22 23:31

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

حنّا أبو حنّا في الغياب والحضور...
تخليد العظماء ليس بالرّثاء ولا بالمديح والظّلال والكلمات المشبعة بالبلاغة والرّنين والعظمة...
التّخليد بما كتبوا وبأقلامهم سطّروا وكتبهم السراج والنبراس لنا... بعناية ورعاية من الله، سطّر ودوّن قلم الرّاحل الكبير هذه المقالة عن رائعة المجنون والبحر المترجمة إلى لغات عديدة.
إعادة النشر – حياة جديدة وولادة ثانية للشاعر والأديب الكبير: حنّا أبو حنّا – زيتونة فلسطين الخالدة.

رائعة الشّاعر وهيب نديم وهبة المجنون والبحر
مسرحه القصيدة العربيّة
للشّاعر الأديب: حنّا أبو حنّا


الإبداع رحلة. وتختلف الرّحلات وعوالمها باختلاف المبدعين ورؤيتهم ورؤاهم. وقارئ "المجنون والبحر" للشّاعر وهيب نديم وهبة ينطلق معهُ في رحلة جميلة ممتعة يحلّق فيها على جناح الرّؤيا في اثنتي عشرة "حلقة" لولبيّه في صعودها نحو الاختراق.
الحلقة الأولى - وهي ما يوازي البرولوغ في المسرحيات الكلاسيكيّة – تقدّم بصوت الرّاوي محور جدليّة الرّؤية، وبعض ملامح "الشّخوص". ينطلق الصّوت من عالم مُسخت فيه القيم فقد:
"أصبحَ الْإنسانُ الطيّبُ النّزيهُ، منبوذًا ومرفوضًا وكافرًا في استغلالِ الْفرصِ... كما يُقالُ...
ولا يُقالُ إنّهُ متواضعٌ محبٌّ، يُحبُّ الْخيرَ لكلِّ النّاسِ... طيّبُ الْقلبِ، بسيطُ الْانفعالِ...
وصافي الْعقلِ والْوجدانِ."

"ليسَ منَ السّهلِ،
أصبحتِ النّزاهةُ عارًا والدّعارةُ علمًا والْخداعُ تجارةً
والْكذبُ مهنةً...
تحرّكَ الْمجنونُ في دَاخلي.
ليكنِ الْجنونُ بدايةَ الْبدايةِ."

ولنلاحظ أنّ الفعل "أصبح" يعني أنهُ كان هناك إنسان طيّب وكانت هناك نزاهة... إلّا أنّ كلّ ذلك. تشوّه، ولذلك فأنّ تعامل مع الواقع عبر المجنون يصبح "أكثر واقعيّة"
و"المجنون" هو الّذي يتعامل مع الواقع المحيط بما يغاير العرف، بل هو ثائر على تلك الأعراف، تشتعل في صميمه جمرة الحلم بعالم آخر وأفاق أخرى مشرقة صافية بانسجام الموازين وطيب المعدن الإنسانيّ.
هذا هو المجنون الذي عرفناه عند "جبران خليل جبران" وعند كثرين سواه.
وهو عند وهيب نديم وهبة "العاشق المجنون"، وثمّة فرق "بينَ الْعشقِ الْعاديِّ... والْعشقِ الْممْزوجِ بالدّمِ، والْخيانةِ والنّفاقِ، هذا الْوهمُ الْقاتلُ..."

وهذا العاشق المجنون لم يقرع الباب ولم يدخل من النّافذة ولكنّه خارج من ذات الرّاوية.

"الْعاشقُ الْمجنونُ يفتحُ للْفرحِ الْآتي
كلَّ زجاجاتِ الْحزنِ، ويسكرُ، ويشهقُ...
ويهتفُ: عاشَ الْفرحُ.

ينهضُ،
يجمعُ كلَّ زجاجاتِ الْحزنِ، ويركضُ،
ويركضُ حتّى الْبحرِ...
يرمي واحدةً، وأخرى، وعشْرا...
ويرمي... ويرمي... يغرقُ الْبحرُ بالْأحزانِ."

(وسوف يردّ البحر، في النّهاية (ص 133) عندما "يجمعُ الْبحرُ شريعةَ الْمجنونِ في زجاجاتِ الْأحزانِ، ويقذفُ بها إلى الشّاطئِ بكاءَ عاصفةٍ خرساءَ."

أما "البحر" فتكثر صفاته، وقد تتناقض أحيانًا فهو "أصغر من دمعة"... إلا أنهُ هو "البحر الكبير" الّذي يخرج إليه المجنون من ذات الرّاوي، فهو الغاية والحلم.
في "الحلقة الثّانية" – أو المشهد الأوّل تدخّل "هالة"... "مثل الأرنب البريّ" في ذاكرة المجنون وتعيش في شرايين دمه وتركض في حقول قلبه الواسعة البيادر...
"جاءَتْ بعدَ جفافِ الْبحرِ،
وموتِ السّمكِ الْبحريِّ على ضفافِ الْيابسةِ..."

ويخصب العشب ويزدهر، فتتدفّق الحياة في كلّ شيء:

"حملَ الْمجنونُ عشقَ "هالة" على راحةِ الْيدينِ...
وفتحَ كلَّ الشّرايينِ والْأوردةِ، حتّى امتلأَ الْبحرُ بالْماءِ.
وعلى الشّاطئِ، الصّدفُ الْملوّنُ الْأزرقُ يضحكُ للْموجِ الْآتي بعدَ غيابٍ."

والمجنون وهو الذي يطعم الأسماك الميتة كسرة خبز، وبعض النبيذ فتعود إلى البحر، ويضحي حضن هالة والبحر واحدًا.
ولكن هذا التناغم لا يطول... وسرعان ما يختل، فهناك "يحملُ في الْعينينِ وجعَ الْأرضِ
وأحلامَ الْمنبوذينَ، الْمعذّبينَ. وأشجارُ الدّمعِ الْيابسِ نبتَتْ فوقَ الْوجهِ."
"يا زمنَ الْحزنِ، والْغربةِ، والْهجرةِ" قالَ الْمجنونُ
وسكبَ النّارَ في ثيابِ الْفرحِ الْهاربِ.

وإذا الإنسان يكيد للإنسان، والنُّباح في أزقّة الزّعامات والاضطهاد يتدفّق من قلبه:
"الْآنَ أسمعُ صوتَ الْبحرِ، أغنيةً رائعةً،
الْفرحُ موجةٌ عابرةٌ... والْحزنُ سيّدُ الْعالمِ."

وفي ختام المشهد تقف هالة والمجنون معًا أمام البحر:
"انظري، هذا الْبحرُ الْكبيرُ أنا،
وأنتِ فرحُ الّليلةِ
وقنديلُ الصّباحِ"

إلّا أنّ في هذا المشهد والمشهد السّابق إشارات تبدو للوهلة الأولى وكأنّها عابرة، ولكنّها نغم إيقاعيّ مرافق يبدأ ببناء الموسيقى المحوريّة شيئًا فشيئًا.
ففي "الحلقة الثّالثة" يقول:
(تلكَ كانَتْ أولى هجراتِ الْمجنونِ
منْ مرافئِ الْيابسةِ إلى الْبحرِ).

أذن تتكرّر هجرات المجنون إلى البحر وهو في كل مرة "يحمل في العينين وجع الأرض وأحلام المنبوذين المعذّبين..." ولذلك نتعزّى بعض العزاء عندما يختفي المجنون وتبحث عنه هالة، ولكنَّ الوهم هو الّذي يحاورها.
فهي الغيبة أذن... هي أحدى الهجرات، ولا بد من عودة.
أمّا الإشارة الثَّانية فترد في الحلقة الرّابعة على لسان المجنون (أو هو صوت الرّاوي): "الْفرحُ موجةٌ عابرةٌ... والْحزنُ سيّدُ الْعالمِ."

فإذا كانت هذه هي الرّؤية المحوريّة، فإنّها تلتقي مع ما سبق من هجرات المجنون إلى البحر... وكأنّما كلّ عودة، موجة فرح عابرة تحمله ليعاود الكرّة. وقد تلتقي رؤية "الحزن سيّد العالم" مع الرّؤية الدّينيّة التي حملت آدم وحوَّاء لعنة عرق الكدح وعذاب المخاض، حينما طردا من الجنّة- قال الله لآدم: "ملعونة الأرض بسببكَ. بالتّعب تأكل منها كلّ أيام حياتكَ وشوكًا وحسكًا تنبت لكَ..." وقال لحوّاء: "تكثيرن أكثر أتعاب حبلكِ. بالوجع تلدين أولادًا..." (تكوين -16,17,3).
أريد أن أترك للقارئ متعة الرّحلة دون دليل، ولكنّي أشير تلميحًا إلى تلك الرّؤية الجدليّة الّتي لا تستغرق في الحلم المتجاهل أبعاد الأمور، بل ترصد تعدّد الوجوه للشيء ذاته، فالحبّ هنا هو الحبّ المتحدّي وهو ليس حريرًا كلّه، ولكنّه العذاب العذاب... تقول هالة:
"أحبّكَ سيّدي. حبّكَ، سيّدي
هذا الْخنجرُ، الْمزروعُ حديقةَ ورودٍ في الْقلبِ.
تنبتُ أشواكُ التّحدّي"

والبحر- رمز الحياة والّذي حضنهُ حضن هالة سواء. فيه ذلك البركان المتعطّش للحرّيّة:
"رسمَ الْبحرَ صبيّةً متوحّشةً للْحريّةِ، تضربُ الْيابسةَ أنْ تتحرّكَ، بمطرقةِ الْموجِ العاريةِ منْ أسلحةِ الدّمارِ. الْيابسةُ قاسيةٌ! خُذيني منْ هنا."

هذا البحر نفسه فيه: "الْقراصنةُ، وأسماكُ الْقرشِ والنّباتُ المْميتُ الّذي يُطبقُ الْفمَ
الشّرسَ على جسدِكِ السّمكةِ."

ثمَّ هذه المعادلة بين الحياة والموت:
"كيْ تعيشَ، يجبُ أنْ تهربَ منَ الْحياةِ، وتقتربَ منَ الْموتِ،"
وكذلك:
"اهربْ منَ الْحياةِ إلى الْموتِ – لا تموتُ، اهربْ منَ الْحياةِ إلى الْحياةِ – تمتْ."

ممّا يذكر بعض الشّعراء القدماء الّذين تحدّثوا عن "حبّ السَّلامة" والموت في الحياة وما إلى ذلك يتردّد صداه في الذَّاكرة التّراثيّة.
هذه الرّؤية الجدليّة تسعى إلى الاقتراب من واقعيّة الواقع، لتتعامل معهُ بالتّحدي والثّورة وتتمرّد على التُّراث الذّليل الّذي تجسّد في المثل العاميّ: "الايد الّلي ما بتقدر عليها، بوسها وادعي عليها بالقطع" (راجع ص 86) كما تتمرّد على مفاهيم "العرض" المشوّهة، واضطهاد المرأة والرّياء والاستغلال.
ويسود في هذا العمل التّفاؤل بحريّة الإنسان المنشودة رغم أنّ:


"الْعالمُ يسقطُ...
يسقطُ في الرّذيلةِ...
والْكلُّ يتحدّثُ عنِ الْأخلاقِ."

ويظلّ أرقّ خيوط التَّعزية الذَّاتيّة في ضمير المجنون:
الْمجنونُ: "وأنا جمعْتُ الْخيمةَ، عائدٌ إليهم وأنتِ معي. وإنْ رفضونا،
وسدّوا الطّريقَ وأغلقوا مملكةَ الْحبِّ عليْنا – سوفَ أرتضي منَ الدّنيا.
إنّي قلْتُ!!
ما يجبُ أنْ يُقالَ، وما يمكنُ أنْ يكونَ...
هكذا خلقَنا اللهُ، بشرًا."

هل هي رحلة أوتوبيّة؟ ليس على الشّعر أن يرسم المناهج ويقنّن الخطى، ولكنّه يمزّق الأقنعة ويثير انهار الأسئلة لتجري في الغابات ترتاد مواقع مجهولة ومراصد للضّياء وينابيع للرّي.
وفي هذا العمل يسود النَّفَس الشّعريّ وينعقد، أجواء جميلة، وتنسج لغة تسعى إلى أفاق الدَّهشة والمفاجأة.
إشارات:
صدر المجنون والبجر في (3) طبعات بالعربيّة وترجمات للغات عالميّة - وهذه المقالة التّحليليّة عن الطَّبعة الثّانية للمجنون والبحر – نشرت في المجلَّات والصّحافة والآن تظهر على الشَّبكة - كما تمَّ تسجيل المجنون والبحر في مكتبة المنارة العالميَّة بصوت الإعلاميّة القديرة فادية نحّاس.
لوحة الغلاف والرّسومات الدَّاخليّة للرَّسّامة الرَّائعة – هيام يوسف مصطفى.

مقالات متعلقة