للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
كانت شمس الظهّيرة تنبعثُ من خلال قضبان الشباك الصغير في سيارة (البوسطه) المعدة لنقل السّجناء لتتسلل بغموضٍ ودّيّ ولتضفي مسحة من الوداعة والطمأنينه على أجساد الرجال المكبّلين بالاغلال في طريقهم نحو طقوس التجريد من الانسانيّة. السّيارة المصفحّة المُحكمةِ الإغلاقِ تنساب بخفةٍ واتزانٍ هادئ على الاسفلت الملتهب والأبنيةُ من حولها غافيةٌ باستسلام ٍ تحت زرقة سماءٍ تبعثرت في فضائها بعض الغيوم الرقيقه، والنهار يسحب خلفه بتثاقل شمسه المحتضرة ببطءٍ وهي تتلاشى بعد ان كانت قد وُلدت في الصّباح مفعمةً بالنشوة والحنان، بينما عقربا الساعة المصلوبين على جدار مدخل السجن يتمطيان بضجرٍ ليحطما قرص الشمس كمعولين يحفران للنهار الهزيل الشاحب قبره.
وصلت سيارة السجناء الى قصر العدالة الاسرائيليّ المنيف وخرقة قماشٍ عليها خطان ازرقان تتراقص على سقفه بمكابرةٍ وتحدّ، بعد ان انطلقت في ساعات مخاض الفجر الاولى لتجمع اشخاصاً من المعتقلات ومراكز الشرطة وغرف التحقيق لدى المخابرات، ومنها نزلَ أشخاصٌ مربوطون الواحد الى الآخر، محجوبون تماما عن العالم خلف بواباتٍ حديديةٍ ضخمةٍ، مفصولين عن أحلامهم وطموحاتهم ومفاهيمهم للحياةِ التي ما نضجت يوماً الى فلسفاتٍ مستنيره، واليوم أصبحوا افراد قبيلةٍ من المنبوذين الرحّاله، مكبلين بقيودٍ تذكِرّ بجماعات المجذومين الأفارقة اللذين اعتادوا أن يُربطوا سوياً وعلى رقابهم أجراسٌ تحذرّ المارة ليتفادوهم في الطرقات، والفرق أنّ قبيلة المنبوذين لدينا في ترحالٍ مستمرٍ، بلا أجراسٍ في أعناقهم، تبتلعهم دهاليز المعتقل المعتمة في قصر العدل كما ابتلع الحوت سيدنا يونس.
إنّ افراد قبيلة المنبوذين المغلولة هم (المادّة الخام) او (البضاعة) التي تشّغل آلات العدالة، تفرغهم سيّارة (البوسطه) صباحا في الاقفاص النتنه في أقبية المحكمه التي تنبعث منها رائحة طعام السجناء تارة، وتارة اخرى تتبعها رائحة المخلفات البشرية التي تنتجها أمعاء ضجّت بالطعام الرديء في مراحيض مكشوفةٍ لا يسترها ساتر، تمتزج بالرطوبة وبعرق أفراد القبيلة البائسين، ذوي العيون الحمراء البليده، والثياب الرثة التي تبث رائحة التعفن لتلسع أنفك بمجرّد ان تقترب لتصغي لشكواهم.
الآن دور (المتهم) ليُربطَ َ بالسّلاسل في يديه ورجليه ويقاد مع السجّان من الأقبية المتعفنة في الجزء المبهم الغير المرئيّ من عالم العدالة الى قاعة المسرح المكشوفة لكل فضوليّ، عبر مصاعد وادراج طويله مخفيه. كلّ شيء يتمّ وفق وتيرة يوميّة ثابتة مثل مارش عسكريّ ترافقه موسيقى السّلاسل التي يتوارد ضجيجها الى مسامعك من بعيد لتبشر السامعين باقتراب البضاعة من حجرة التّصنيع. إن فضاء المحكمة عابق بالكذب والزيف. هناك تدور مسرحية طويلة الفصول تلوذ كلّ شخصياتها خلف أقنعة تخفي معالمها, لكنها جميعا تتآمر على وأد الحقيقة التي يمرّ طيفها بكامل عريها على مرآى من الجميع فيشيحون بوجههم متنكرين لها.
بعد ولوج السجين ركن المعتقلين الزجاجي في القاعة, تقدّم منه شخصٌ لبس الابيض والأسود تراءى من بُعدٍ كطير البطريق، تدلت أمامه بطنٌ شديدة الضّخامه، وصلعته البرّاقة مع نظارته السميكه أضفيتا عليه شيئا من المهابة، أخبره باقتضابٍ ودون اكتراثٍ أنه محاميه بينما جفناه المتثاقلان يصارعان سطوة النعاس، وأردف هامساً: "لا تقلق, كلّ شيء تحت السيطرة !".
والمحامي, قد يكون آخر من يهمه العدل والحقّ. إنها مهنة فنّ تجميل الكذب النتن, حيث يقوم الكذب مقام الوقود الذي يحرّك تلك الآلة العملاقة: نيابة ودفاعا وقضاءا, كلّ يخادع الآخر, ومن ثمّ يخدع نفسه, لتنطوي الصفحة وليعبروا للتفنن في صفحة أخرى في آليةٍ من اللامبالاة تجاه المواد الخام التي تمثل يوميا في أقفاص الإتهام. إنها مهنة الفراغ والضمير الأجوف وانعدام الجدوى وازدراء الذات. لا معنى فيها للنجاح فهو سراب لا يطوله الإدراك. قد تضطرب حياتنا وتتعرقل لو غاب عنها يوماً كانسو الأرصفة, لكنها ستسير على أكمل وجه حتى لو غاب عنها للأبد كلّ المحامين !.
لقد دخل القاضي من حيث العدم, فقام الجّميع. وعندما جلس لم يعد المتهم يرى من مكانه غير رأسٍ دونَ جسد. كان الجّميع يتكلمون كلاما مبهماً وكانهم يتحدثون بلغة غريبه، وجلبة غير معهودة تعالت في دماغه فلم يعد يفقه ما ينطق به الحاضرون. ممثلة الإدّعاء كانت امرأة قبيحةً بشكل غير عاديّ: كانت سمينه، وجهها الاجعد تعلوه البثور وضفيرتها الكثة تذكّر بالساحرة الشريرة في قصص الاطفال. كان يستشفّ من صراخها غير المفهوم انها تود ان تشويه في النار بلا رحمه. لقد انفتح شدقاها وهي تصيح باندفاعٍ وحماسٍ حتى خيل له في مرحلة معينه أنّه ستنبعث الضّفادع من فمها ضفدعا وراء الآخر.
وإذ ذاك, كان المحامي يتثاءب ويحارب جفنيه المتهدلين من أن يُطبقا فلا ينفتحان من جديد، وبطنه الكبيرة تسحق أوراق القضية بينما لعابه يتسلل كاللص من بين شفتيه ليبلل ربطة العنق السوداء التي تكاد تحبس انفاسه المتثاقله. وعندما ايقظته صيحة القاضي، إنتصب واقفاً وطفق يسرد ما لم يفقهه المسكين القابع وراء جدار الزجاج، كتلميذ يلقي على مسامع استاذه قصيدةً مكسّره.
بعد ذلك عاد الرأس الذي بلا جسد ليتكلم. ترى اين، ولماذا يخفي القاضي جسده ؟ هل يعقل ان تحت المنصة الخشبية العريضة يزج هذا الكيان بجزء ذميم ٍ قد ينتقص كشفه من رهبة آلهة العدل الكامنة بين كتفيه ؟. يبدو أن الزمن جعل من القاضي ينظر إلى البؤساء الذين تعلّق مصيرهم بمزاجه وكأنهم جراثيم أولى بها أن تباد. لا يعنيه أن مأساة إنسانية تتجسد في تفاصيل القضية. لا وقت لأي فضول لمعرفة ظروف سقوط المتهم في هاوية الجريمة, بل يتحتم طيّ الصفحة سريعاً لأنّ الدفتر زاخر بامثاله.
ترى، هل يعلم هذا الرأس الذي ينجلي من فوق هذي المنضدة العاليه ان لهذا القابع في القفص الزجاجي واقعٌ وهمومٌ واحزانٌ وآلامٌ ومخاوفٌ ومسراتٌ وطموحٌ لمستقبل اطفالٍ يودّ ان يكونوا من الأخيار. هل يعلم - او بالاحرى، هل قد يهمّه أنّ له اسمٌ يعرفه به الناس وان له جسدٌ يرتاد الطبيب ليصون صحّته وان له من يهتم لامره ويحزن لحزنه ويفرح لفرحه ؟. لقد عرف المتّهم سريعاً ان الرأس المتكلم فوق المنصة العالية هو صاحب الهيمنة الذي يأمر باشارةٍ بمثوله، وله السّطوة في نهاية المطاف ان يأمر "بمحوه" بضع سنين. هذا الرأس المتكلم قد (صنّع) للتوّ متهماً هو موضوع لقضيةٍ بتّ فيها وأصدر فيها حكمه بالسجن سنواتٍ عدّه، هو جزء من المادة الخام او البضاعة المكدّسة في الأقبية النتنه التي تقاد اليه كلّ صباح، لا اسم لها ولا كيان ولا معالم إنسانيه، قد انتهى من تصنيعها وقام (ليكتشف المتهم فجأة وهو مصدوم ان للرأس القضائي جسدا يتعلق به !!) ليعود الى غرفته المكيّفة وليتمايل منتشيا على انغام كونشيرتو بيانو "الناي السحري" لموتسارت، وقد ترك في القفص الزجاجي الذي في القاعة حطام انسانٍ لم يفهم أي شيء، ما زال يجلس على مقعد المتهمين وهو يحدّق ببلادةٍ تعيسةٍ إلى من حوله كمن يستجدي تفسيراً لما حدث بعدما فقد كلّ المعاني من مفرداتِ القاضي الذي صاغ مصيره بكلماتٍ منمقةٍ خاويه، كلها عبرٌ وحكمٌ منتحلةٌ لا تعني أحداً، وحكماً صارما بأن المتهّم اولى لو اُشعل من اجله الحطبُ وَوُضِعَ في قدرٍ ليُسلقَ على مهل، أو هو بمثابة جيفةٍ وجب دفنُها في غياهب السّجن لتمّحي من واقع البشر. تُرى، هل هناك فرقٌ بين القاضي وبين باري البشر في حسم مصير الناس، حتّى انتزاع معنى الانسانية منهم باسم العدالة التي بحثنا عنها في بناية القضاء المترامية الأطراف، في قاعة المحكمه، تحت المقاعد وفوق المقاعد، في زنازين السجناء وساحات الانتظار وركن المدخنين والمقصف وحتى المراحيض فلم نعثر لها على أثر ؟. هل هناك من يعرف اين يلوذ شبح العدالة العمياء بالاختباء ولماذا تخفي وجهها القبيح عن النّاس فلا تتراءى إلا لمن نصّبهم البشر لأن يقتلوا الانسانيّة، شرعاً، في غيرهم من البشر ؟.
انتهت المسرحية والمتهم المضطرب من هول المطرقة التي هوت على مصيره يُقادُ ثانيةً الى القبو المتعفن عبر الدهاليز المعتمة في الجزء الآخر من العالم اللا مرئيّ, ليعود مع قبيلة المنبوذين الرحّالة للسفر المضني في القافلة المتحرّكه في سيارة البوسطة التي لا تعرف الكلل، وجمهور المتفرجين ينسحب من قاعة المحاكمات ليخلي المجال لعرض مسرحيّ (مجانيّ) تراجيدي لاحق.