الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 16:02

رسائل من القدس وإليها في ندوة اليوم السابع

ديمة جمعة السمان
نُشر: 15/07/22 04:31

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

رسائل من القدس وإليها في ندوة اليوم السابع

القدس: 14-7-2022- من ديمة جمعة السمان: ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية كتاب" رسائل من القدس وإليها" للأديب المقدسي جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير، ويقع الكتاب الصّادر هذا العام 2022 عن مكتبة كل شيء في حيفا، ويحمل غلافه الأوّل لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصرالله، ومنتجه وأخرجه شربل الياس في 182 صفحة من الحجم المتوسط.

افتتحت الأمسية ديمة جمعة السمان فقالت:

رسائل وصلت بسلاسة دون حواجز، رسائل تحمل عبق الوطن تبادلها الكاتبان جميل السلحوت وصباح بشير تم جمعها بين غلافي كتاب لقيمتها المعرفية والوطنية والأدبية والثقافية والإنسانية، حملت في طياتها مفاهيم وقيما تعمل على ترسيخها المجتمعات التي تحترم نفسها وتهتم بأجيالها القادمة.

رسائل كتبت بانسيابية وصلت أهدافها للقارىء بسلاسة دون حواجز.

جمعت الرسائل بين الخاص والعام، إلا أن الهدف من نشرها لم يكن شخصيا بقدر ما كان يحمل نصائح غير مباشرة، وحلولا لبعض المشاكل التي يواجهها المجتمع، كما أنها زخرت بالمعلومات القيّمة التي تم توثيقها بمهنية عالية، ترصد الواقع، تشيد بالإيجابيات من جهة، ومن جهة أخرى تنقد السلبيات مع تقديم البديل بموضوعية متناهية.

تناول الكاتبان واقع المرأة في المجتمعات الذكورية الظالمة لإنسانيتها، إذ عليها أن ترضى بالواقع دون اعتراض، وإلا تخرج عن الصف الاجتماعي الذي يحكم عليها أحكاما لا تحترم كيانها، ولا وجودها وأنوثتها، ولا حقوقها وإنسانيتها.

تناول الكاتبان الواقع الثقافي وأهمية دور المثقف في إلقاء الضّوء على العادات والتّقاليد البالية من جهل وتعصّب يعود على المجتمع بالضرر.

وتمّ ذكر عدد من المبدعين الذين كان لهم دور على المستوى السّياسي والوطني، والذين قدموا التضحيات جاهدين ليقودوا المجتمعات نحو التغيير.

تحدّث السّلحوت عن كتاباته الاجتماعية وتوظيفها لخدمة المجتمع، إذ أن الثقافة تعتبر من أهمّ مفاتيح التّغيير. وتحدّث عن كتاباته عن أحفاده، من خلال قصص موجهة للأطفال، كانت فاتحة لكتّاب آخرين حذوا حذوه.

كما أنه استرسل في الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي وممارساته داخل القدس، ومحاولة تهويدها وأسرلة قطاعاتها المختلفة وعلى رأسها التّعليم. وتناول أيضا حجم خطورة زحف المستوطنات وابتلاع ما تبقى من أراض فلسطينية، ضاربين بعرض الحائط كل الاتفاقات والمعاهدات الدولية، دون وجود أيّ رادع.

وعلى صعيد آخر كانت الرّسائل أشبه بأدب الرّحلات، إذ اصطحبنا الكاتبان برحلات متنوّعة في معظم البلدان العربيّة والغربية التي زاراها، فتعرّفنا على ثقافات شعوبها وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، كما تعرفنا على أهم معالمها التراثية الحضارية والتاريخية والدينية والجغرافية.

وتحدثت صباح بشير عن أهمية السّفر لاكتساب الثّقافات الجديدة، إذ أثرى كثرة السّفر والتنقل بين البلدان المختلفة ذاكرتها وأثّر على تشكيل شخصيتها.

إلا أنّها ركّزت على أنّ الانسان يظلّ ناقصا دون الوطن، منتظرا عودته إليه.

كما تحدّثت عن أهمية الكتابة، إذ استذكرت قول كونفوشيوس: إنّ أضعف حبر يكتب به القلم لهو أقوى من أيّ ذاكرة إنسانيّة.

وقالت: لا صوت يعلو فوق صوت القلم حين ينام الضّجيج، إذ يفرض القلم نفسه ويساعد الكاتب على التّفريغ، فتسكنه الرّاحة والسّكينة.

وتناول الكاتبان السّقطات السّياسية، وأيضا السّقطات الإعلامية. إذ أن بعض وسائل الاعلام توصد أبوابها أمام الكفاءات، وتكتفي بتوظيف الكوادر وفقا لانتماءاتهم السياسية.

وانتقد السّلحوت بعض الفضائيّات التي تقدّم محتوى يعمل على ترسيخ الجهل والتخلف، فلا رقابة حقيقية تضبط الوضع وتراقب المحتوى.

كما ركزت بشير على أن صورة المرأة في إعلامنا لا زالت سلبية حتى هذه اللحظة.

أمّا كوفيد 19، فقد كان له حصة أيضا، إذ تم تناول تبعاته وتأثيراته السلبية الاجتماعية والتّعليمية على المجتمعات كافّة.

رسائل كتبت بحبّ تحمل قيما إنسانية، لكاتبين خبرا الحياة بتفاصيلها، فقدما كل ما شعرا أنّه قد يكون مفيدا للقارىء.

كتاب جميل، يعتبر إضافة نوعية للمكتبة العربية، تحديدا لهذا الجنس الأدبي الذي أصبح نادرا، ويواجه عزوفا من الأقلام المبدعة والشابة على حد سواء.

وقال محمود شقير:

في ما يقرب من أربعين رسالة على امتداد إحدى عشرة سنة يتبادل الكاتب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير الآراء حول نشأة كل منهما وحول بعض القضايا الأسرية ومختلف شؤون الحياة والمجتمع والناس.

ويطرح كل منهما رؤيته لقضايا الوطن ومناهج التعليم القاصرة وأوضاع المرأة الفلسطينية، وما تتعرض له من ظلم وإجحاف في مجتمع ذكوري ظالم، وتجري المقارنة بين الحين والآخر مع مجتمعات أخرى منفتحة على الحضارة والرقي والتقدم، ولا نلمس أي خلاف في وجهات النظر بين الكاتب والكاتبة، بل هناك توافق في النظر إلى مختلف الأمور والقضايا، ويأخذ وصف الزيارات والرحلات إلى داخل بلادنا وإلى بلدان أخرى عربية وأجنبية والإقامة في بعضها لسنوات حيزًا ملموسًا في الرسائل.

ويكثر الحديث في الرسائل عن هموم الكتابة، وعن الإنجازات التي تحققت كما في حالة جميل السلحوت، الذي أنجز خلال السنوات التي شهدت كتابة هذه الرسائل عددًا غير قليل من الروايات للكبار وللصغار وبعض كتب أخرى، وعن الإنجازات التي تحققت على صعيد كتابة المقالات العديدة،كما في حالة صباح بشير، التي تحدثت عن بعض كتب جميل السلحوت في مقالات منشورة لها، وعن طموحاتها المشروعة في الكتابة التي تتمثل في رواية بدأتها ولم تنجزها حتى الآن.

الجدير ذكره أن هذه الرسائل انطلقت بعد لقاء الكاتب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير في إحدى ندوات اليوم السابع المقدسية، ولم تستمر هذه اللقاءات بعد انقطاع صباح عن حضور الندوات من جراء السفر أو غيره من الأمور المتعلقة بالعمل، لكن فكرة تبادل الرسائل انطلقت من هناك، وما شكّل عنصر تشجيع عليها أن الكاتب والكاتبة ينتميان إلى بلدة واحدة هي السواحرة الغربية أو جبل المكبر، ويكنان أحدهما للآخر احترامًا وتقديرًا بالغين.

والرسائل مكتوبة بلغة سلسة لا تعقيد فيها ولا غموض، وفيها تشويق للقارئ بالنظر إلى أنها تأخذ من فن السيرة الذاتية قسطًا، ومن أدب الرحلات قسطًا آخر، ومن السرد الأدبي القسط الأوفر، وهي، أي الرسائل، تحمل في طياتها دعوة صريحة إلى نبذ التعصب والتزمت والمغالاة في التمسك بالعادات البالية وبالتقاليد التي لم تعد مناسبة للعصر الذي نعيش فيه، وفيها كذلك دعوة إلى نبذ التخلف والانغلاق، وضرورة التعلم من تجارب الشعوب الأخرى واكتساب ما هو نافع مفيد وترك ما هو سلبي ضار من هذه التجارب، وفيها حثٌّ على احترام المرأة في مجتمع ما زال يمارس سطوة ضارية على حق المرأة في التعلم وفي المساواة وفي التعبير عن نفسها بحرية ومن دون إكراه.

وبرغم التباعد الزمني بين رسالة وأخرى، هذا التباعد الذي بلغ أربع سنوات في إحدى المرات، فإن الكاتب والكاتبة اعتمدا مبدأ تجاهل الزمن والالتزام بالرد على الرسالة المرسلة كما لو أنها وصلت قبل أيام، ما أسهم في تجسير الفجوة الزمنية الواقعة بين رسالة وأخرى، وهو أمر يحسب لصالح الكتاب الذي ضم بين دفتيه هذه الرسائل التي تطرقت إلى قضايا كثيرة مما يهم مجتمعنا وناسنا الرازحين تحت الاحتلال.

والسؤال: هل نحن بحاجة إلى أدب الرسائل والمراسلات؟ والجواب من دون تردد: نعم، نحن بحاجة إلى هذا الأدب الذي يحمل قدرًا من البوح والمكاشفة، وقدرًا من نقد سلبيات المجتمع للوصول إلى التغيير المنشود الذي لا يتم إلا عبر التزود بالثقافة التي لا بد منها لكل مجتمع طامح إلى التقدم والرقي والتحرر والانعتاق.

وقال عبدالله دعيس:

لا شكّ أنّ فنّ الرسالة الأدبيّة هو أحد فنون الكتابة المهمّة في الأدب العربيّ، فقد ظهر مع ظهور الكتابة والتدوين في العصور الإسلاميّة الأولى، وازدهر في العصر العبّاسيّ، واستمرّ بقوّة في مختلف البقاع الإسلاميّة، وكان له تألّقه في العصر الحديث، حيث الرّسائل المتبادلة بين الأدباء والكتّاب والشعراء. ومع انحسار استعمال الرسائل الورقيّة، ربما بدأ هذا الفنّ العريق بالتّراجع قليلا، حين حلّت الرسائل الإلكترونيّة، والتي طابعها السّرعة والإيجاز، محلّ الرسائل الورقية، ويُأخذ على الرسائل الإلكترونيّة الردّ الانفعالي العاطفي أحيانا دون تفكير أو رويّة أو مراجعة حقيقيّة لما كُتب، ودون التّروّي والتّفكير في تأثير الرّسالة على نفس المتلقي.

ورسائل الأديب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير هي رسائل إلكترونيّة، لكنّها لم تُكتب على عجل، ولم تكن ردا انفعاليّا، بل امتدّت لأكثر من عشر سنوات منذ عام 2010 حتى نهاية عام 2021، لذلك فهي امتداد طبيعيّ لفنّ الرسالة الأدبيّة الراسخ في الأدب العربيّ، وتطوير له؛ فاستخدام الرسائل الإلكترونيّة هنا، لم يُفقد الرسائل قيمتها الأدبيّة وجمالها ورونقها.

ويلحظ القارئ لمجموعة الرسائل المتبادلة بين الشّيخ جميل السلحوت وصباح بشير، اللغة الأدبيّة الجميلة، والعبارات الماتعة، والسّرد المشوّق، وتنوّع الموضوعات وثراءها؛ فلغة الرسالة وأسلوبها عادة ما تلائم المتلقي لها وقدرته اللغوية وفهمه، فلكل مقام مقال، والرّسالة الموجّهة لعامّة النّاس لا تكون كالرّسالة الموجهة لأديب يمتلك أدوات اللغة ويحسن فهمها، وتداعب عباراتها الجميلة وأساليبها البديعة شغاف قلبه، لذلك أبدع الكاتبان وأحسنا التّعبير عمّا كان يجول في خاطريهما، وأمتعا المتلقّي وجذباه لالتهام السطور، والسفر مع رسائلهما في أقطار المعمورة دون كلل أو ملل.

ومن اللافت في هذه الرسائل، أنّ الكاتبين لم يلتقيا إلا لماما، ولم تجمع بينهما لقاءات ولا حوارات خارج هذه الرسائل المتبادلة، فما الذي دفعهما إلى الاستمرار بالمراسلة لفترة طويلة؟ وخاصة أنّ البعد عادة ما يجعل العلاقة بين أي شخصين تفتر بعد فترة من الزمن- فالأصدقاء المقربون يتبادلون الرسائل الكثيرة في بداية اغتراب أحدهما، ثمّ تبدأ هذه الرسائل بالتّناقص حتى تنقطع أو تصبح نادرة قليلة، ولا تلبث العلاقة أن تفتر بينهما- "والبعيد عن العين بعيد عن القلب." كما يقولون. لكنّ مجموعة الرسائل المتبادلة بين الكاتب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير، تزداد وتتابع بعد مضيّ عدد من السنين على رسالتهما الأولى! وذلك لأنّ ما جمعهما هو اهتمام مشترك، وهمّ مشترك، وأفكار متقاربة، وحبّ للّغة والأدب، وحبّ للوطن، وحرص على نبذ الجهل السائد في المجتمع ورفع من شأن الإنسان العربيّ، وخاصّة المرأة.

من الواضح من خلال قراءة الرسائل المتبادلة بين الكاتبين، أنّهما لم يكتباها لكي تُنشر، وإنّما ليتبادلا فيها الأفكار والمشاعر، لذلك كانت عفويّة صادقة غير متصنّعة، وهذا ما يميّز هذه الرسّائل ويميّز فنّ الرسالة بشكل عام.

وقد امتدت الرسائل بين الكاتبين لمدة تربو على عشر سنوات، وهي سنوات حدث فيها تغيّرات كثيرة في العالم العربيّ، الذي تاق أبناؤه لحريّة ينتزعونها من أنياب الطغاة، فثاروا عليهم، وتفتّحت أزهار الرّبيع العربيّ، لتنقضّ عليه سيوف الطّغيان لتئده في مهده وتحوّل الحلم الجميل الذي استوطن قلب كلّ عربيّ حرّ إلى كابوس مزعج دفع بالكثيرين إلى براثن اليأس. وقد اتسمت هذه السّنوات القليلة، بتغيّرات اجتماعيّة وسياسيّة كبيرة جدّا، وانقسم النّاس فيها: فمن آمن بالحرّية كقيمة أصيلة، وآمن بمبادئه وتاريخه وثقافته ودينه بقوّة، لم يتزحزح قدر شعرة عن إيمانه، وتلقى الضربات المضادّة بقوة وثبات، وأصبح أكثر إصرارا على الوصول إلى شواطئ الحريّة والعزّة رغم حلوك العتمة، ومنهم من ركن إلى الطغاة وآثر سلامة العبوديّة على وعثاء الحريّة، ومنهم من شكّ بقاناعاته مع أول اختبار حقيقيّ، وانزوى بعيدا عن الأضواء ووصل إلى حالة من اليأس والإحباط، ومنهم من تملّكته الآلة الإعلاميّة للباطل فامتدّت يداه إلى معاولهم فأمعن بهدم روح الأمّة. يبدو الكاتبان، من خلال رسائلهما الممتدة خلال هذه الفترة الحرجة، ثابتين على أفكارهما، لكن بإمكاننا أن نلحظ التغيّرات الاجتماعية والسياسيّة التي حدثت من خلال هذه الرسائل. ونلاحظ التتابع في الرسائل في فترات معيّنة والانقطاع في فترات أخرى، فلم تكن هناك رسائل بين العامين 2013 و 2017 حيث كانت الصدمة كبيرة على المثقفين، ولم تتضح الأمور بعد، ثمّ أصبح الأمر بعدها واضحا جليّا لكل ذي عقل وقلب.

يتناول الكاتبان عددا كبيرا من الموضوعات في رسائلهما، وإن كان التركيز على الأوضاع الاجتماعيّة في فلسطين يأخذ حيزا كبيرا منها، ويتبادل الكاتبان شؤون الأدب وحياتهما الأدبيّة، فيتعرّف القارئ للرسائل على إنتاجهما الأدبي وعلى الحياة الثقافية في القدس وفلسطين، ويتحدّث الكاتبان عن حياتهما الشخصيّة، فتكون رسائلهما سيرة ذاتيّة مصغرة، ويتحدثان عن حياة الفلسطيني في ظلّ الاحتلال، والتحوّلات التي حدثت في القدس بسببه، ويصفان البلدان التي زاراها فيما يشبه أدب الرّحلات، ويتحدّثان عن الأمور السّياسيّة في مواقع كثيرة، رغم أنهما يقولان أنهما يريدان أن يبتعدا عن السّياسة وهمومها، وغير ذلك الكثير. وتنوع المواضيع في هذه الرسائل يثريها.

يتفق الكاتبان على كثير من الأمور، والمشترك بينهما كبير، فهما محبان للأدب، محبان للسفر، مؤمنان بقيمة الحريّة، يزدريان الجهل، ويحفهما الأمل بالتّغيير. لكن هناك تباين بين شخصيّتيهما، فالكاتبة صباح بشير كانت تشعر بالاغتراب عن مجتمعها، ثمّ اختارت طوعا الغربة والابتعاد عن الوطن، وعندما عادت، اختارت أن تسكن في حيفا بعيدا عن مرتع طفولتها والقدس التي أحبتها، كما تقول، ونراها تزدري العادات الاجتماعيّة العربيّة وترفع من شأن المجتمعات الغربية التي عايشتها. أما الكاتب جميل السلحوت فرغم وعيه لكل ما في مجتمعاتنا من جهل وعادات سيّئة، والتي يشير إليها بوضوح ويحاربها بقوّة، إلا أنّه لا ينفصل عن ثقافتة مجتمعه وتراثه ودينه، ويرى الخير فيها، كما يرى الاعوجاج والانحراف، ويسعى نحو الإصلاح دون الانقلاب على الثوابت ومعاداتها، يعجبه في الغرب الكثير الكثير ويذكره دون انتقاص، لكنّه لا ينحدر نحو الانبهار بحضارة الغرب، ولا ينسى ما قامت عليه هذه الحضارة من ظلم واضطهاد واستعمار وتفرقة عنصريّة والكيل بمكيالين.

"رسائل من القدس وإليها" كتاب رائع يستحقّ القراءة، يعطي صورة واضحة عن الحياة الاجتماعيّة في القدس وفلسطين، وعن الوضح الثقافيّ فيها، في فترة اضطربت فيها الأفكار والمشاعر، تمرّ الأمّة فيها بمخاض عسير، نأمل أن يسفر عن ميلاد لمستقبل جميل.

وكتب رائد محمد الحواري:

توجه في الآونة الأخير مجموعة من الأدباء إلى كتابة أدب الرسائل، وهذا ظاهرة محمودة، فنحن في المنطقة العربية نعاني من شح في هذا التوع من الأدب، فقد صدر رسائل بين محمود شقير وشيراز عناب، وها هو جميل السلحوت وصباح بشير يدونان رسائلهما في كتاب "رسائل من القدس وإليها"، فبداية المراسلات كانت في القدس حينما تقابلا في ندوة اليوم السابع التي يقيمها أدباء القدس أسبوعيا في مسرح الحكواتي، ثم تم سفر جميل إلى الولايات المتحدة لمدة ثلاثة أشهر واستمر الرسائل، ثم سافرت صباح بشير إلى الإمارات العربية ومكثت فيها عدة سنوات، ثم انتقلت إلى المملكة المتحدة وعاشت في لندن فترة من الزمن، إلى أن استقرت في حيفا، فالعنوان منسجم مع مكان إرسال الرسائل، حيث كانت الرسائل في البداية تكتب من القدس وترسل إلى القدس، لكنها لاحقا كتبتها صباح بشير من خارج القدس؛ لتصل إلى المقدسي جميل السلحوت.

بما أن التعارف بينهما كان من خلال حلقة نقاش أدبي، فقد أخذت الرسائل هذا الجانب بين الاعتبار، وبما أن مشاركة صباح جاءت متأخرة على الندوة، فقد استدعى هذا أن يشير جميل السلحوت في أول رسالة إلى بدايات الندوة، ومتى عقدت وفي أي مكان: "..وقد تعودنا على حضور مبدعين من طالبات وطلاب من بناتنا وأبنائنا في الداخل الفلسطيني، الذين يدرسون في الجامعة العبرية للمشاركة في ندوة اليوم السابع التي تأسست في الفاتح من شهر آذار ـ مارس 1991" ص6، وهذه إشارة إلى عمق المؤسسة الثقافية الفلسطيني، وعلى أنها مستمرة، فزمن كتابة الرسائل بدأ في 11 نيسان ـ ابريل 2010 وانتهت في 31 -12-2021 وبهذا يكون عمر الندوة ثلاثون عاما، وعمر الرسائل أحد عشر عاما.

تشير صباح بشير إلى بداية اهتمامها بالأدب وكيف أن والدها كان له الفضل في هذا الجانب من خلال المكتبة المنزلية التي أسسها: "...مكتبة خاصة لوالدي، تدهشني بكل ما تحتويه من الكتب الثقافية والأدبية، وغيرها من كتب علم النفس التي كان والدي شغوفا بها" ص21، ثم تنتقل إلى ما تعانيه المرأة في المجتمع الذكوري بقولها:"...فالنظرة الدونية للمرأة مازالت قائمة وسط اتهامات قاسية محبطة ومستفزة أحيانا،.. بسبب تلك الثقافة الذكورية البالة، تتأخر المرأة وتمنع من تسجيل تفوقها على لوحة الإنجاز" ص21، الجميل في هذه الرسالة الإشارة من صباح أنها تؤكد على حالة الظلم التي تقع على المرأة العربية من مجتمعها/أهلها وعلى ضرورة إزالة (الثقافة الذكورية) من المجتمع، لكي يتقدم المجتمع ويتحرر الوطن.

وهذا ما استدعي من جميل السلحوت ليشير إلى روايته "ظلام النهار" وما تحمله من مضامين اجتماعية: "..وفي روايتي الأولى "ظلام النهار" التي صدرت هذا العام 2010، فهي تتمحور على التخلف والجهل والموقف من المرأة، وقد طرحتها بطريقة مقززة ومنفرة لمحاربتها وليس لترسيخها" ص16، نلاحظ رسائل، رسائل تكاملية، حوارية، تنمي المعرفة وتعمق محور النقاش، وهي متعلقة بجوانب أدبية ثقافية اجتماعية، وهذا ما يجعلها قريبة من المتلقي الذي يجد همومه فيها.

تنقل صباح بشير رؤيتها الأدبية لرواية السلحوت بقولها: "...أنت تعلم بأن اللهجة العامية تختلف من منطقة إلى أخرى في بلادنا، لذا فاستعمال اللهجة المحكية لمنطقة ما قد يعيق الفهم لقارئ آخر يعيش في منطقة لا تتحدث ذات اللهجة، ليتك لجأت إلى اللغة الثالثة؛ لتصبح الكلمات مفهومة للقراء كافة... وملاحظة أخرى وهي أنني لاحظت بعض الأخطاء المطبعية التي كان يمكن تلافيها" ص 31و32، هذا الطرح يبقي مضمون الرسائل ضمن مكان ندوة اليوم السابع، حتى أنها تبدو استمرارا للندوة وللمحاورات التي تجري فيها.

بعد سفر جميل السلحوت إلى أمريكيا يتحدث في رسالته عن تلك القارة وما فيها، يتحدث عن رؤيته للمجتمع الأمريكي بقوله: "رأيت غالبيتهم يتناول أحد ملاحق الصحيفة ويدفع ثمنها ويترك الصحيفة، لكنهم يثقون بحكومتهم ويطيعونها بشكل أعمى، لأنها منتخبة من قبل الأغلبية، وتوفر لهم سبل الحياة الكريمة كلها" ص38و39، اللافت في هذه الرسالة أنها تتحدث عن تفاصيل كثيرة عن جغرافية أمريكيا وسكانها، فكانت أقرب إلى أدب الرحلات منه إلى أدب الرسائل، وقد تناول الطالب العربي بصورة متميزة تجعل القارئ يشعر بالنشوة: "...أن جامعاتها ترحب بالطلاب العرب، لأنهم يرفعون اسم الجامعة باجتهادهم، وأن 92% من الطلاب العرب ينهون الشهادة الجامعية الأولى دون أن يقصروا بمادة واحدة، يأتون إلينا وسريعا ما يتعلمون اللغة ويتفوقون على الطلبة الأمريكان" ص43.

تقرأ صباح بشير رواية "جنة الجحيم" لجميل السلحوت وتبدي وجهة نظرها فيما جاء فيها: "تتميز الرواية بالسهولة والبساطة، وشعرت بانسيابها العفوي، فهي أقرب ما تكون إلى الواقع المعاش، ... شعرت أنني أعيش الأحداث، أعاينها وأرصدها عن قرب.

لكن لي بعض الملاحظات...فاستخدامك اللهجة المحكية بكثرة، تكاد تكون عسيرة على الفهم بالنسبة للكثيرين، كما أن العنوان "جنة الجحيم" مربك بعض الشيء، وكم تمنيت لو أن كلمة جحيم لم ترد مطلقا في العنوان" ص50، بهذه الرسالة تحافظ "صباح بشير" على الجانب الأدبي في الرسائل، وتبقيها ضمن ندوة اليوم السابع، المكان الذي تعارفا فيه.

يرد جميل السلحوت على الملاحظات بقوله: "...إلا أن الاحتلال بجرائمه وانتهاكه لكرامتنا ولحرماتنا ولإنسانيتنا قد قلب نعيم العيش في وطننا إلى هوان دائم، وهكذا جاءت رواية "هوان النعيم" وأنا الآن في مرحلة تشطيب الجزء الرابع من هذا المسلسل الروائي" ص52، المحاورات الأدبية وإبداء وجهات النظر ميزة تحسب لهذه الرسائل، إضافة إلى تناولها المشاكل الاجتماعية والهموم السياسية في المنطقة العربية، ولما تقدمه من معرفة جغرافية للعديد الأماكن، إن كانت في فلسطين أو خارجها.

تتحدث صباح بشير عن ظاهرة الدين السياسي وأثره السلبي على المجتمع بقولها:" لسيت السياسة وحدها هي من يقضي على أوطاننا، فظاهرة التعصب الديني دون الفهم الصحيح للدين، تملأ المجتمع وتكاد تغلق كل حيّز فيه، وها نحن نشهد تحولات خطيرة بين النصوص المتشددة التكفيرية التي أصبحت أكثر انتشارا... التطرف يلغي أي هوية أخرى مهما كانت، وهذا ما يحد من التعددية والتنوع والاختلاف والمشاركة في تيسير الحياة" ص57، من هنا تأخذ الرسائل الاهتمام في الجوانب الاجتماعية والسياسية وحتى الجوانب الشخصية لكلا منهما، فقد أصبحا صديقين بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

تتحدث صباح عن مشكلة العقل العربي وكيف أنه يسير ضمن منطق القطيع:"...لثقافتنا الشرقية التي تؤكد على التبعية مسؤولية الفرد تجاه المجموعة وإكراهه على تنفيذ وابتاع سياسة القطيع، دون الاهتمام بتعليمه وتهذيبه أو إكسابه قيم المواطنة الحقيقية والانتماء، نحن نشجع السيطرة والتسلط على الإنسان وعلى حالته الذهنية والفكرية، كذلك نتدخل في أدق تفاصيل حياته" ص69و70، وإذا عدنا إلى ما جاء في رسالة "صباح" يمكننا التأكد أنها تتحدث عن وجع عام ووجع شخصي، فهي ترى مجتمعها/ وطنها/ شعبها/ أمّتها تعاني وتتلذذ بمعاناتها، فهي أمة/ مجتمع غارق في الألم، ويتلذذ بما هو فيه بشكل مازوشي، معتبرا نفسه متميزا عن بقية الأمم/ الشعوب رغم أنه من المجتمعات المتخلفة والمتقهقرة.

الواقع القاسي يفرض على الإنسان إيجاد مخرج، شيء يخفف عليه شيئا من هذه القسوة، لهذا وجدنا "صباح" تنتقل إلى أكثر من مكان، أحد عناصر التخفيف، وكذلك تتجه إلى الكتابة/ القراءة التي تجد فيها:"..أعشق القراءة والكتابة، أتجدد بهما وانبعث فيهما" ص80، إذا عدنا إلى الرسائل سنجد أن "صباح بشير" تتحدث عن المشاكل الاجتماعية أكثر من جميل السلحوت، وهذا يعكس واقعها الاجتماعي الذي تكتمت عليه ولم تتناول منه إلا النزر اليسير، بينما كان جميل السلحوت تحدث وبإسهاب عن تفاصيل كثيرة عن حياته وعن أسرته وزوجته وأحفاده، لهذا كان مضمون رسائله تتجه نحو المعرفة أكثر منها للنقد.

يتحدث جميل السلحوت عن جغرافية فلسطين بطريقة مفصلة، وعن الاستيطان ودوره في تهويد المكان:" بلدتنا السواحرة ... كان أبي يفلح الأرض بالحبوب، وكان مصدر رزقنا الوحيد يعتمد على الفلاحة وتربية المواشي، مررنا بمنطقة الخلايل التي امتدت عليها مستوطنة "معاليه أدوميم" وابتلعتها، ومررنا بمنطقة الصرارات التي تقوم عليها مستوطنة "نيؤوت أدوميم" ...ووقفنا على قمة جبل المنطار، ومن هناك رأينا إلى الشمال الغربي منا، أبو ديس، العيزرية وجبل الزيتون، ورأينا القدس الشريف ومسجدها الأقصى المبارك" ص100، اللافت في هذه الرسلة التي تمتد من صفحة 100 إلى صفحة103 أنها تتناول المكان وما جرى فيه، مبقية شيئا هامشيا بسيطا تحدث فيه السلحوت عن مشروعه الأدبي في روايتي المطلقة والخاصرة الرخوة".

جميل السلحوت يتقدم اكثر في أدب الرحلات، فيتحدث في إحدى الرسائل عن تفاصيل هذا الأدب، وكيف أنه كان محطة اهتمام العديد من الرحالة العرب، ثم ينتقل ليتحدث عن رحلاته، وكيف أنه اسهم في كتابة أدب الرحلات من خلال كتابه "في بلاد العم سام".

في عصر النت وتطور التكنولوجيا أصبحت عملية الطباعة والنشر أسهل، بحيث يمكن لكل من يمتلك المال وعنده كتابات مهما كانت أن ينشرها، يتحدث جميل السلحوت عن هذه الظاهرة بقوله: "...يلاحظ تهافت بعض من يحلمون بأنهم قادرون على الكتابة، فرأينا عشرات بل مئات الكتب التي تطبع على حساب كاتبيها في مجالات مختلفة، ومع أن هكذا كتب في غالبيتها لا قيمة أدبية أو فكرية لها، ولا تساوي ثمن الورق الذي طبعت عليه، ومنها مع الأسف ـ مطبوعات موجهة للأطفال! إلا أن أصحابها يجدون من يصفق ويبارك لهم" ص164و165، تؤكد صباح بشير على أن هذه الظاهرة خطرة على المجتمع وعلى الثقافة متناولة جانب ظاهرة السعي وراء الجوائز، وأثرها السلبي على الأدب والأدباء:"..الاعتراف بأن تلك الجوائز ليست معيارا لجودة العمل أو تفوقه، فعدد لا يستهان به كل يوم يجربون حظهم في الكتابة، وآخرون من المبدعين الحقيقيين يستعجلون ويتسرعون في كتابتهم، للحاق بموعد الجائزة، فتنحدر أعمالهم هبوطا دون أن تصعد إلى السلم الأدبي بنجاح"167و168.

يتحدث جميل السلحوت عن ظواهر المجتمع السلبية خاصة ما يتعلق منها بطريقة تعاملها من الموت: "...ننعى بفخر واعتزاز ... فعن أي فخر وعن أي اعتزاز نتحدث، وهل ارتقاء واحد من أبنائنا سلم المجد يدعو للفخر والاعتزاز؟ وهل ننتظر هكذا ساعة لنبدي فخرنا واعتزازنا بذلك؟ ويصاحب عملية التشييع هتافات وربما إطلاق عيارات نارية، ...إذا كان استشهاد إنسان ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز، يتوجب تقبل التهاني فهل هكذا سلوك براءة للقاتل من دم القتيل؟ فإذا كان الأمر كذلك فإنه يستحق الشكر أيضا، لأنه جلب لنا الفخر والاعتزاز، وهذا ما لا يقبله عاقل" ص176و177، من هنا تكمن أهمية الرسائل، فهي تكشف وتبين الخلل في العديد من سلوكياتنا وطريقة تعاملنا مع الأحداث.

صباح بشير تؤكد على أن هناك العديد من المشاكل تواجه طريقة تفكير العقل العربي خاصة ما هو متعلق بالمؤامرة: "...بفايروس كورنا، فالفايروس مؤامرة، العلاج مؤامرة، أخذ اللقاح مؤامرة. هذه العقليات المتخلفة ترفض رفضا مطلقا كل ما هو جديد من الأفكار والقيم الإنسانية" ص181، بهذا الشكل نستطيع القول أننا أمام رسائل تناولت أكثر من جانب، فرغم أنها بدأت كرسائل شخصية-أدبية، إلا أنها تناول العديد من القضايا والهموم، فكانت أحيانا قريبة من أدب الرحلات، وأحيانا تتطرق إلى ما هو اجتماعي أو سياسي، وحتى فكري.

وقالت د.روز اليوسف شعبان:

لون أدبيّ جديد لتأريخ السيرة الذاتيّة

يرسل الرسالة الأولى الكاتب جميل السلحوت بتاريخ 2010/4/11، وذلك بعد التقائه بصباح أوّل مرّة في ندوة اليوم السابع المقدسيّة. أمّا الرسالة الأخيرة فتنهيها الكاتبة صباح بشير في تاريخ 2021/12/31.

فإذا ما تأمّلنا تاريخ بداية الرسائل وانتهائها، نجد أنّها امتدّت إحدى عشرة سنة، تطرّق فيها الكاتبان للحديث عن مواضيع عديدة تؤرّق الكاتبين، فنجدهما يتبادلان الآراء والأفكار في هذه القضايا، ويحاول كلّ منهما إعطاء اقتراحات للخروج من الأزمات التي يعاني منها مجتمعنا: أزمة ثقافيّة، سياسيّة، تربويّة، اقتصاديّة، أخلاقيّة، جماليّة وغيرها..

أثناء عرض هذه القضايا، يتحدّث كلّ كاتب عن جوانب مضيئة في حياته: مؤلفات وكتب، سفر وتجوال في العالم، وصف الأمكنة وتأثيرها على النفس وإغناء تجربة كلّ كاتب الفكريّة والأدبيّة والثقافيّة.

من خلال هذه الرسائل عرفنا الكثير عن هذين الكاتبين: آراؤهما، رؤاهما الفكريّة والأدبيّة، آمالهما وأحلامهما. ولنبدأ أوّلا بالكاتب جميل السلحوت. فمن خلال رسائله اتضحت لنا رؤاه الفلسفيّة والفكريّة والعقائديّة، فنجده إنسانا تنويريّا، يؤمن بالعلم والمنطق والعقل، يحارب الجهل والتخلّف و ثقافة الهبل كما أسماها في كتابه" ثقافة الهبل وتقديس الجهل" من إيمان بالمشعوذين والسحرة، وقتل النّساء على ما يسمّى شرف العائلة، إهانة المرأة وضربها وعدم السماح لها باختيار شريك حياتها( ص 83).ثم يتطرّق إلى وضع التعليم المزري وعدم اهتمام أكثريّة أولياء أمور الطلّاب بتربية ومتابعة أبنائهم خصوصا في مرحلتيّ الطفولة والمراهقة، فتحدّث في هذا السياق عن طفولته التي كتب عنها في كتابه" أشواك البراري-طفولتي سيرة ذاتيّة" حيث عانى من طفولة قاسية وعدم اهتمام أهله به، ثمّ اعتقاله عام 1969 وتعرّضه لتعذيب قاسٍ أورثه انزلاقا غضروفيّا في الرقبة وفي أسفل العمود الفقريّ مع تقرّحات في المعدة والقولون. ومع ذلك لم يفقد حلمه وإصراره على تكملة تعليمه الجامعيّ، فالتحق بجامعة بيروت العربيّة انتسابا ودرس اللّغة العربيّة.( ص 85). وتابع مشواره الأدبيّ؛ ليكتب عن عيوب مجتمعه محاولا تسليط الضوء عليها، مبديا رأيه فيها ومحاولا تقديم النصائح للشّباب للتخلّص من هذه الآفات.

كما يتعرّض الكاتب جميل السلحوت للحديث عن القدس والمحاولات لتهويدها وتهويد حيّ الشيخ جرّاح وحصارها وعزلها عن سائر مناطق فلسطين، كما يتحدّث عن منطقة براري بلدته السواحرة القريبة من القدس، وعن خسارة أهله وسائر سكّان بلدته لهذه الأرض التي صادرتها إسرائيل، وبنت عليها مستوطنة معاليه أدوميم، وهكذا خسر الفلسطينيّون مصدر رزقهم، حيث اشتغلوا بزراعة الأرض وتربية المواشي (ص 102) .

وللرحلات حيّز هامّ في هذا الكتاب، فالكاتب جميل السلحوت يتحدّث عن رحلاته الكثيرة إلى أمريكا، حيث يسكن فيها عدد من إخوته وابنه قيس، وقد تعرفنا على أماكن سياحيّة جميلة في أمريكا، ومنها شلّالات نياغرا من خلال ما وصفه في رسالته للكاتبة صباح. ويشير أيضا إلى تأليفه لكتاب "كنت هناك" الصّادر عام 2012، يتحدّث فيه عمّا شاهده في الأردنّ، سوريا، لبنان، مصر، السعوديّةـ روسيا وأمريكا. كذلك يتعرّض لحياة الشّعب الأمريكيّ الذي لا تهمّه السياسة، مع ذلك فهو يحترم حكومته.

ومن اللّافت في هذا الكتاب ما وصف فيه السلحوت اليهود من أنّهم عرب يهود، عاشوا في الدّولة الاسلاميّة معزّزين مكرّمين:" حتى ظهرت الحركة الصهيونيّة وضلّلتهم وسلختهم عن عروبتهم، وهذا يؤكّد أن الصراع في فلسطين بشكل خاصّ وفي الشرق الأوسط بشكل عامّ ليس صراعا دينيّا، وإن ما هو صراع مع الحركة الصهيونيّة كحركة استعماريّة، اختارت أن تعادي شعوب المنطقة وإحلال مهاجرين يهود مكان الشعب الفلسطينيّ بعد الاستيلاء على أرضه". (ص 150).

ومن ظواهر تكريس الجهل ما يجري من هدم للمؤسسة التّعليميّة مثل قانون يمنع معاقبة تلاميذ المدارس، وهذا أمر جيّد وفق رأي السلحوت، لكنّ المشكلة تكمن في عدم وضع قوانين أخرى تضبط فيها التّلاميذ، وتحمي المؤسسات التّعليميّة والعاملين فيها، ممّا أدّى ذلك إلى اعتداء على المعلّمين لفظيّا وجسديّا. وقد شمل الاعتداء أيضا الحرم الجامعيّ، فقُتل طلّاب لأتفه الأسباب، ولم تنج المستشفيات من الاعتداء. وهنا يطرح الكاتب سؤالا مهمّا: هل نحن نعيش مرحلة ضياع اجتماعيّ تتصاحب ومرحلة الضّياع السياسيّ؟(ص 158-159).

ويرى السلحوت أنّ كل ذلك إضافة إلى انتشار ظاهرة حمل السلاح، وتجارة المخدّرات، وقتل النساء تحت ما يسمّى "شرف العائلة"، يدلّ أنّنا نعيش خللا اجتماعيّا، فنحن بحاجة إلى ثورة على التّقاليد البالية التي تشكّل رافدا لهزائمنا المتلاحقة، وهذا لن يتأتّى إلّا بالتعليم الصحيح، ومواكبة العصر والعلوم الحديثة.( ص 159-160).

وتردّ الكاتبة صباح في رسائل متتابعة على رسائل السلحوت، فتعرّف بذلك على جزء كبير من سيرتها الذاتيّة، بدءا من ولادتها في القدس، طفولتها وتشجيع والدها لها على القراءة، حتى تعليمها وزواجها وعملها في الصّحافة والإعلام في مجلّة نسويّة تعنى بشؤون المرأة، ثم انتقلت للعيش في دولة الإمارات العربية المتحدة، استقرّت في أبو ظبي، وبعض الدول الخليجيّة. سافرت مرارا إلى الأردنّ وتركيا، ثمّ انتقلت للعيش والاستقرار في لندن، وزارت بعض الدول الأوروبيّة، ثمّ انتقلت إلى تونس وزارت دول المغرب العربيّ، وحاليّا تعيش في حيفا.(ص 98).

هذا التنقّل المتكرّر وعدم الاستقرار في مكان واحد ألقى بظلاله وثقله على الكاتبة صباح، فوصفت علاقتها بالأمكنة:" عدم الاستقرار في مكان واحد جعلني أفقد الكثير من ممتلكاتي وأغراضي، خصوصا الكتب. فما أن تعيد ترتيب حياتك لتعيش في مكان وترتبط به، ثمّ تجد نفسك مضطرّا لمفارقته"(ص 96). ومع ذلك فقد استفادت صباح من تجربتها هذه فتقول في ذلك:" تعلّمت الكثير في فضاءات المدن، فالأماكن التي مررت بها كثيرة، وكلّها ساهمت في تكوين شخصيّتي، غير أن الوطن مقرّ النشأة الأولى ومرتع الصبا هو من يسكنني".(ص 98).

وفي رسائلها للسلحوت تتعرّض الكاتبة صباح إلى عدّة مواضيع اجتماعيّة ثقافيّة تعليميّة تربويّة تؤرّقها منها مثلا: التمسّك ببعض العادات البالية التي تعيق تقدّمنا، كما أن المناهج التربويّة التعليميّة لم تتمكّن حتى الآن من تقديم ما يتوافق واحتياجات الواقع، فهي لا تعمل على بناء شخصيّة قياديّة ناقدة عميقة ومفكّرة ومؤثّرة. فالتّعليم في بلادنا هو عمليّة تلقينيّة لا تتناسب مع النموّ والتطوّر الحاصل في تفكير النشء، كذلك دور المؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة المتخاذلة والجامعات الغائبة أو المغيّبة عن البحث العلميّ وتشجيع القيادات الشابّة"(ص 107). وقد ضاعفت الكورونا من الهوّة بين الطلّاب أنفسهم وبينهم وبين المعلّمين، وهي ترى أنّه لم يتمّ إعداد المعلّمين بطرق تدريسيّة حديثة تتماشى مع العصر وخاصّة في فترة الكورونا والتعليم عن بعد.

كما تتعرّض الكاتبة صباح إلى دور الصحافة العربيّة، فترى أنّ الثقافة تعيش حالة من الاغتراب، فحضورها باهت في صحف ومواقع إلكترونيّة ذات طبيعة إخباريّة لا تؤسس لأهداف ثقافيّة، كما أنّ تمثيل المرأة في الإعلام ما زال سلبيّا، فهي تصوّر كسلعة أو أداة جذب للتّسويق ويتمّ تجاهل ثقافتها وطموحاتها أو عملها وإبداعاتها.(ص 114).

تنتقد الكاتبة صباح الفكر الشرقيّ وتقارنه بالفكر الغربيّ الذي يحترم الإنسان كفرد حرّ مستقلّ بذاته، لديه كلّ الطاقات والامكانيات الفكريّة الخلّاقة، نقيض الثقافة الشرقيّة التي تؤكّد على التبعيّة ومسؤوليّة الفرد تجاه المجموعة، وإكراهه على تنفيذ سياسة القطيع دون الاهتمام بتعليمه وتهذيبه، وإكسابه قيم المواطنة والانتماء(ص 69-70).

ولحيفا والقدس مكانة خاصّة في قلب الكاتبة صباح، لذا تخصّ كل مدينة بنصّ جميل شاعريّ تصف فيه جمال المدينة، ففي وصفها للغروب في حيفا تقول:" وحده ذلك الشعور من يعيد إليّ روحي وسط الزّحام وفتنة الغروب، سحر الألوان ورائحة البحر، والبهجة التي تعوم حولي في قلب الماء، انسكابه ارتطامه المشرّع على كلّ شيء، يشعل ذلك في داخلي الحنين والأحاسيس الكثيرة كما يبعث فيّ الألفة والشجن وكثير من الذّكريات المخبّأة عندها أتذكّر قول أمّي" ضعي أمنياتك وقت الغروب لعلّها تشرق يوما ما".(ص 147).

وفي وصفٍ شاعريّ جميل آخر لحيفا تكتب صباح بشير ما يلي:" ولقدسيّة المكان وبعد أن يهدأ الموج تخشع عين الشّمس، تمشي على استحياء وتغيب في خجل، تتوارى حتّى الصباح مبتعدة، آخذة معها النور والضّياء، يسدل اللّيل ستائره تتلألأ النجوم حينها أمعن النّظر في أكوان لا يراها أحد سواي، أكوان من الورد والزّهر".(ص 148).

وفي وصفها للقدس تقول": في كلّ مرّة أزورها أكتشف بأنّي ما زلت أقيم فيها، ولم أغادر، فحين ألتقيها يكاد قلبي يترجّل من صدري، ويقفز ليدوس ترابها وروحي ترفرف من حولي مسرعة لتعانق فضاءها، تأخذني الرّهبة أمام هيبتها وتلامس حواسّي رائحتها، وأمام أسوارها العتيقة تلك القابعة في قلب التّاريخ ، تهدأ روحي وأسكن كطفل غفا في حضن أمّه".(ص 153)

يشترك الكاتبان في حبّهما للقراءة والكتابة. يقول الكاتب جميل السلحوت في ذلك، أنّه حين كان طفلا كان يذهب إلى مكتبة في القدس مشيا على الأقدام ليشتري كتابا، وقد رافقه هذا الشّغف للقراءة والكتابة حتّى يومه هذا.(ص23).

تفصح الكاتبة صباح عن حبّها الشديد للكتابة، فهي حلمها الأوّل، وقد شرعت في كتابة رواية ومجموعة قصصيّة للأطفال. فالكتابة بالنسبة لها:" شرفة الروح المنفتحة على السّماء وزيارة الرّؤى في ارتقائها إلى ما وراء السّمع والبصر، حيث العوالم الخفيّة المحفوفة بالمعرفة المستترة خلف حجب الغيم، شجى القلب وسرّ الفرح".(ص 80). وتشير إلى أهميّة الحبّ بشكل عام في حياتنا: حبّ الوطن، حبّ الأم لأولادها، حبّ الأصدقاء والعائلة، حبّ النفس، فالحبّ كما تقول هو نكهة الحياة ومذاقها.(ص 78).

نلحظ في هذا الاستعراض الموجز لما ورد في الرّسائل المتبادلة بين الكاتبين، أنّهما تعرّضا لرؤاهما الفكريّة، الثقافيّة، الاجتماعيّة، السياسيّة والإنسانية، إضافةً لذكر محطّات هامّة في حياة كلّ واحد منهما: عمله، نشاطاته، إصداراته، قراءاته، رحلاته وتنقلاته في هذا العالم وما إلى ذلك.

من هنا أميل للاعتقاد أنّ هذه الرسائل هي لون فنيّ جديد من ألوان السّيرة الذاتيّة، إذ تميّزت السّيرة الذّاتيّة المعروفة لنا بالسّرد الذّاتي للكاتب عن نفسه بلسان المتكلّم أو الغائب، لكننا هنا نجد لونا جديدا، وهو فنّ كتابة السّيرة من خلال الرّسائل.

وقال الدكتور عزالدين أبو ميزر:

قراءة في كتاب ( رسائل من القدس وإليها) للكاتبين جميل السلحوت وصباح بشير من القدس.

(وتبقى القدس محور كل شيء، وحول المحور الدنيا تدور)

وكيف ولا وهي قدس الله وقبلة العقول وهوى الافئدة والقلوب. وكعادتي في كل قراءاتي أُجمل ولا أُفصّل، وأعمّم ولا أخصّص إلا فيما يقتضي مني التفصيل، ويجبرني على التخصيص في أمر لي فيه باع طويل ومعرفة أكاد أجزم فيها، وفيما عدا ذلك تكون قراءتي كأي متلقي، أكتب عن انطباعاتي بشكل عام، وعن تأثري بما قرأت مبتعدا عن نقد المتخصصين سلبا أو إيجابا.

لقد صدق من قال : إن الأرواح جنود مجندة من تعارف منها ائتلف ومن تناكر منها اختلف.

وهذه الرسائل المتبادلة بين الكاتبين ما هي إلا فن من فنون الكتابة الجميلة، والذي كان قديما واندثر، ثم عاد في العصر الحديث بشكل غير قوي بين بعض الكتاب ردا على اختلاف في مواقف أو حول رأي في اللغة كما جرى بين بعض كتاب مصر وسوريا ولبنان.

وفي هذه السنين الأخيرة والتي نعيشها نشط هذا الفن بين أكثر من كاتب وكاتبة. وما نحن بصددها اليوم هي الرسائل قبل الأخيره وقد سبقتها الرسائل بين الكاتب الكبير محمود شقير والأديبة حزامة حبايب، وبينه وبين الكاتبة شيراز عناب، وتلتها رسائل بين الكاتب والشاعر عمر صبري كتمتو والدكتورة روز شعبان، ولم نطلع عليها بعد،. وقد يصبح الحبل على الجرار وتستمر هذه الطفرة من هذا الفن وتزدهر مرة أخرى، وتصبح فنّا ذا شأن أو يعود ويختفي كما سبق له ذلك، ولكنه سيبقى على أي حال من الأحوال محطة على طريق مسيرتنا الأدبية الفلسطينية.

وفي هذه الرسائل تنوع كثير في الموضوعات وطريقة الرد، فأحدهما لا يعرف ما يجول بخاطر الآخر، لذا اختلفت الردود أحيانا واتفقت أخرى، وتباينت بينهما في ردود أخرى كل بحسب ما لديه من ثقة وعلم وخبرة واطلاع. لكن القدس المحور تظل لا يختلفان عليها، ومهما بعدا تبقى القدس تجمعهما.

ولا يمكنني الحديث عن كل رسالة بمفردها فلكل رسالة زمنها وظروفها ومؤثراتها ومزاج كاتبها.

وحيث أن الكاتب الشيخ جميل السلحوت من الكتاب الغزيري الانتاج والمتنوع في كتاباته، والكثير الاطلاع وذي ذاكرة يحسد عليها، فكان من السهل عليه الرد والإشارة إلى كتبه وتنقلاته ومعرفته، وسيرته الذاتية. فهو بحر من المعلومات لا حدود له، ولديه المقدرة على الحديث في كل موضوع عام تقريبا وبموضوعية وعن معرفة، فهو كثير القراءة ويعرف الكثير.

ولا يفتأ يتحدث عن القدس والاحتلال ومعاناة شعبنا تحت الاحتلال.

وعودة إلى كاتبنا الجميل والذي قرأنا اكثر كتاباته السياسية والأدبية وأدب الرحلات، وأدب الأطفال واليافعين والروايات الاجتماعية والوطنية، وما اشتملت عليه من فلسفة ووطنية ودين وأخلاق وعلم وحديث عن الجهل وثقافته ، ومحاولات المعالجة الموفقة وغير الموفقة والتي جميعها تبقى رأيا لا يصل إلى درجة اليقين، ويحتمل الخطأ والصواب، إلا ما كان نصا منزّلا، ولا يحتمل التأويل، وإن كان يحتمل التوسع فيه حسب التقدم الزمني وازدياد المعرفة العلمية، وما يوسع مجال المدارك ويجعل العقل يفتح آفاقا كانت مغلقة، ويظل دائما وأبدا هنالك فوق كل ذي علم عليم.

وكتاباته المتفرقة في السيرة الذاتية في أكثرها، وكتابه الخاص" أشواك البراري" الذي ذكر فيه سيرته الذاتية بشكل مفصل وجلي. وقد ناقشنا في ندوتنا (ندوة اليوم السابع)؛ أكثر ما كتبه.

لذا ، نحن نعلم الكثير الكثير عن شيخ ندوتنا جميل السلحوت والذي يتمتع بأسلوبه السهل الممتنع والمباشر، ولا يجنح للرمزية والغموض في كتاباته، ويوصل المعلومة التي يريد بكل شفافية ووضوح، ولا يلجا للتورية والكناية، ولا يعتمد المحسنات البلاغية والاستعارات اللفظية أسلوبا في كتاباته وإن تنوعت شكلا وموضوعا، حتي في هذه الرسائل وإن أخذت برأيي نوعا من الحذر المحبب، وحاول فيها إبداء بعض التأنق في الكلام كونه يخاطب امرأة ومن باب التأدب والإكرام من رجل وأديب أن يكون كذلك، فحسن المظهر واللطف والأدب والرجولة في الكلام من شيم الكرام، وكاتبنا جميل وكريم ويحب ذاته على كل ما فيها وما لها وما عليها، وهو صادق في كتاباته، وما اعتمد التلوّن وإن اعتمد الحيطة والحذر، ولذلك بقي على ما نعرفه عليه ولو نحا نحوا آخر لظهر أمام أعيننا تلوّنه وانزياحه؛ ولظهر ذلك في رسائله للكاتبة وقد انقطعت الرسائل بينهما سنين طويلة.

لا أستطيع الاسترسال في الكتابة عن صاحبة الرسائل وكتابتها فانا لا أعرفها ولم أقرأ لها غير هذه الرسائل، والتي كتبتها بلغة أدبيية راقية وأبرزت فيها قدرة ظاهرة مع عدم التكلف أو اللجوء إلى ليّ أعناق الكلمات لتظهر أنها متمكنة رغم اعتمادها على كثير من المحسنات اللفظية والخيال المجنح أحيانا بغير تقصّد.

لكن كل ذلك لا يعطيني الحق بأن أحكم عليها وعلى كتابتها بمجرد قراءتي لهذه الرسائل، فهي في ردودها أشارت إلى ما كتبه كاتبنا وهو كذلك أشار، فلم يكن كل كلامه خالصا ولا كل كلامها، وكلاهما تأثر بالآخر بقصد أو بغير قصد، فبينهما ما يجمع وما يفرّق.

لذلك استرسلت في الحديث عن شيخنا لالتصاقي الكبير به وم

مقالات متعلقة