الأخبار العاجلة

Loading...

من الشرنقة إلى التشرنق.. سؤال الدور والمبادرة

ساهر غزاوي
نُشر: 10/04/25 21:05

قبل الخوض في مفهوم "الشرنقة والتشرنق"، لا بد من التوضيح بأن "الشرنقة" تشير إلى حالة العزل التي تُفرض خارجيًا لتقييد مجتمع ما وشلّ قدرته على الحركة، أما "التشرنق" فهو استبطان هذا العزل والتأقلم معه حتى يتحول إلى حالة وعي وسلوك جماعي.
يجدر التذكير بأن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، ومنذ نكبة عام 1948، صمدوا في أرضهم رغم كل محاولات الاقتلاع والإقصاء التي مارستها الدولة الإسرائيلية بحقهم. تمسّكوا بهويتهم الوطنية والدينية، وواجهوا لعقود طويلة سياسات القمع والملاحقة والإلغاء، وظلّوا أوفياء لانتمائهم العميق، ولعلاقتهم التاريخية والعقدية والروحية بمقدساتهم، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك. لم يتوقفوا عن إحياء روح القضية الفلسطينية، بل واصلوا نضالهم اليومي من أجل حقوقهم وتعزيز تضامنهم مع شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان صمودهم المستمر، رغم كل التحديات، ركيزة أساسية في مقاومة المشروع الاستعماري الإحلالي، ومصدر إلهام دائم لمسيرة النضال الفلسطيني.
إلا أن هذا الصمود بات اليوم يواجه هجمة غير مسبوقة. فمنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، صعّدت السلطات الإسرائيلية من سياساتها القمعية ضد الفلسطينيين في الداخل، ضمن استراتيجية تهدف إلى كسر إرادتهم الوطنية وعزلهم عن عمقهم الفلسطيني والعربي والإسلامي. شملت هذه السياسات حملات تحريض ممنهجة، كان من آخر مظاهرها اعتقال القيادي رجا إغبارية، وقبله الصحفي سعيد حسنين، وحظر لجنة إفشاء السلام التابعة للجنة المتابعة العليا. كما تصاعدت وتيرة الاستدعاءات والاعتقالات بحق عشرات النشطاء، وفرضت عقوبات جماعية طالت طلابًا وموظفين، فضلًا عن تشديد الرقابة على الخطاب العام، حتى بلغ الأمر حد تجريم التعبير عن التضامن مع غزة، حتى عندما يرد في سياق إنساني أو ديني بحت.
ويوازي هذا التضييق السياسي والشعوري، تصعيد في مستوى الجريمة المنظمة داخل المجتمع الفلسطيني، في ظل تواطؤ واضح من الشرطة الإسرائيلية، وتورّط جهاز الأمن العام (الشاباك) في إدارة أو غضّ الطرف عن هذه الشبكات. كما تتواصل سياسة "الإعدام الميداني"، في ظل ارتفاع ملحوظ في أعداد الضحايا، إلى جانب تسارع عمليات هدم البيوت ومصادرة الأراضي، خصوصًا في النقب، كجزء من مشروع مستمر لنزع الفلسطيني من أرضه وهويته، حتى ضمن حدود المواطنة الشكلية.
تعكس هذه السياسات تطبيقًا ممنهجًا لاستراتيجية "وضع المجتمع في الشرنقة" – وهي مقاربة استعمارية تهدف إلى عزل المجتمعات عن محيطها، وتجريدها من أدواتها السياسية والاجتماعية والثقافية، بما يفرغها من قدرتها على المقاومة. يُعامل الفلسطينيون في الداخل كما الطائر في قفص زجاجي؛ يُرى كأنه حر، لكنه محاصر، تخنقه الرقابة وتُقيَّد مؤسساته ويحاصر انتماؤه الجمعي. وليس ذلك فحسب، بل تعمل الدولة على تطبيع حالة "التشرنق"، وترسيخها كوعي جماعي، يوهم الأفراد بأن التأقلم هو السبيل الوحيد، وأن الواقع قدر لا يمكن تغييره.
في هذا السياق، يروّج البعض لما يُسمّى "الواقعية السياسية"، التي تُقدم كطريقة لرؤية الواقع، لا لتغييره. هذه الواقعية تُختزل غالبًا في رهان ضيق على المشاركة البرلمانية في الكنيست، بكل ما يرافقها من تسويغات وتنازلات. غير أن هذا الرهان يتجاهل حقيقة أعمق، تكشفها كل موجة قمع جديدة: وهي أن غالبية المجتمع الإسرائيلي -وليس فقط حكومته- ترى في الفلسطينيين تهديدًا يجب احتواؤه أو التخلص منه. وتعكس موجة القمع الأخيرة تصاعد المواقف المعادية للفلسطينيين في أوساط الإسرائيليين اليهود، والتي تسارعت مع انزياح الدولة نحو اليمين واليمين المتطرف، لكنها سبقت الحرب على غزة. ووفق استطلاعات للرأي أُجريت بين أيلول 2024 وشباط 2025، اعتبر 83% من اليهود الإسرائيليين أن سلوك الجيش في غزة "أخلاقي"، فيما أيّد 73% خطة ترحيل سكان القطاع التي سبق أن طرحها ترامب. في ظل هذا الإجماع، كيف يمكن للفلسطينيين في الداخل أن يراهنوا على منظومة سياسية تمثل جمهورًا يتبنى سياسات الإقصاء والتهجير؟
لكن السؤال الأهم هنا: ما الذي حال دون خروج الجماهير بألوفها إلى الشوارع نصرة لغزة ورفضًا لحرب الإبادة، عندما سنحت الفرصة؟ من يتحمّل مسؤولية ضعف المشاركة الشعبية في مسيرة يوم الأرض، التي شكّلت فرصة طبيعية لرفع الصوت؟ هل نحن فعلًا أمام حالة "تشرنق جماعي"؟ ومتى تتحوّل الأعذار إلى وعي متجسد بالفعل؟ متى تنقلب لحظة الصمت إلى مبادرة؟ وإلى متى سنبقى في موقع الانتظار، نراقب ونتفرج، منتظرين أن يتحرك الآخرون؟
إن الخروج من "الشرنقة" وحالة "التشرنق" لا يبدأ بشعارات كبرى، بل بخطوات ومبادرات، فردية كانت أو جماعية، تُلهم المحيط، وتكسر الصمت، وتُعيد فتح المجال العام. بكلمة حق تُقال في وجه القمع، أو فعالية تُنظم، أو موقف يُدعم، أو حوار يُفتح. فكما أن "التشرنق" عملية بطيئة من التآكل الداخلي، فإن التحرر منه مسار طويل من إعادة البناء، يبدأ حين نؤمن أن الواقع قابل للتغيير، وأن الصمت خيار، لكنه ليس الخيار الوحيد.
وأمام هذا الواقع، لا يكفي التشخيص أو الاكتفاء بالنقد، بل تبرز الحاجة إلى التفكير في مسارات عملية لاستعادة المبادرة السياسية والمجتمعية. ويبدأ ذلك بإعادة الاعتبار للهوية الجامعة، بما يعيد إنتاج وعي جمعي لا يرضخ لحالة "التشرنق"، بل يرى نفسه امتدادًا أصيلًا للمشروع الوطني الفلسطيني، ومكوّنًا حيًا من نضاله المستمر. ويستلزم ذلك إعادة بناء العمل الشعبي من القاعدة، واستثمار الأدوات القانونية والحقوقية دوليًا، وتنظيم الصفوف، وتطوير المؤسسات، وتعزيز التضامن المجتمعي، حتى نتمكن معًا من الخروج من حالة "الشرنقة والتشرنق".

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة