تُشكل محاكمة الشيخ كمال خطيب نموذجًا واقعيًا ومعبرًا عن طبيعة العلاقة التي تنسجها الدولة الإسرائيلية مع المواطنين الفلسطينيين في الداخل، علاقة تقوم على نزع الشرعية، وملاحقة التعبير، وتجريم الهوية. فالإدانة التي أصدرتها محكمة الصلح في الناصرة بتاريخ 30 حزيران 2025 ضد الشيخ كمال، بعد أكثر من أربع سنوات من الاعتقال والمحاكمة، لم تكن مجرد حكم على شخص، بل تجسيدًا لمحاكمة جماعية تُمارس على الفلسطينيين على امتداد ثلاثة أزمنة: الماضي، الحاضر، والمستقبل.
منذ اللحظة الأولى لاندلاع "هبّة الكرامة" في أيار 2021، أطلقت المؤسسة الإسرائيلية حملة تحريض منهجية ضد المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، حملته فيها مسؤولية الأحداث وتبعاتها. وسرعان ما تُرجمت هذه الحملة إلى اعتقالات جماعية طالت المئات، كان في طليعتهم الشيخ كمال خطيب، الذي اعتُقل بأمر مباشر من رئيس الحكومة آنذاك، بنيامين نتنياهو، خلال جلسة طارئة للحكومة.
في هذا السياق، كشفت لائحة الاتهام المقدمة ضد الشيخ خطيب عن الطابع السياسي الواضح للملاحقة، إذ لم تستند إلى أدلة قانونية راسخة، بل اعتمدت على منشورات وتصريحات عبّر فيها عن قناعات وثوابت دينية ومواقف وطنية وهويّاتية، فتم تأويلها وتكييفها قانونيًا بوصفها "تحريضًا على العنف والإرهاب".
لكن الأخطر من التهم نفسها، هو منطق النيابة الذي بُني على أساس محاكمة الشيخ كمال في ثلاثة أزمنة متداخلة:
أولًا: محاكمة الماضي
عوقب الشيخ كمال خطيب لاستحضاره التاريخ الفلسطيني، تحديدًا عبر منشور تناول فيه أحداث ثورة البراق عام 1929، معبّرًا عن تقديره لمن تصدوا للجماعات الصهيونية المعتدية على المصلين آنذاك. ورغم أن هذا التذكير بتاريخ النضال يُعد حقًا مشروعًا في إطار الذاكرة الوطنية، قامت النيابة الإسرائيلية بتحويل هذه الإشادة إلى تهمة "تمجيد مثيري الشغب"، في محاولة واضحة لطمس الرواية الفلسطينية وفرض سردية الدولة كحقيقة قانونية لا تحتمل التحدي.
هذا المنهج ليس حالة منفردة، بل امتداد لسلسلة طويلة من الملاحقات التي استهدفت الفلسطينيين الذين يحيون ذكرى النكبة أو يدرسون التاريخ الفلسطيني في المؤسسات التعليمية، حيث تُوظف ذرائع "التحريض" و"التطرف" لقمع حرية التعبير والسيطرة على الذاكرة الجماعية، في مسار يُحكم فيه القانون لصالح إنكار الحقوق.
ثانيًا: محاكمة الحاضر
ربطت النيابة الإسرائيلية تصريحات الشيخ كمال خطيب بالأحداث التي وقعت في القدس والمسجد الأقصى، وعدة بلدات عربية، خصوصًا في المدن الساحلية المختلطة، مدعية زورًا أنه حرض على العنف. هذا التكييف يُحمل الأفراد مسؤولية تحركات سياسية جماعية، وهو أسلوب قمعي استهدف المئات من النشطاء والشبان خلال وبعد "هبّة الكرامة"، لمجرد التعبير عن آرائهم أو مشاركتهم في احتجاجات سلمية.
هنا، تتجسد محاكمة الحاضر في تحميل السلطات أفرادًا معينين مسؤولية أحداث مُركبة، متجاهلة الأسباب السياسية والاجتماعية التي دفعت الناس للاحتجاج. وتعتبر هذه الاحتجاجات السلمية تهديدًا أمنيًا لتبرير قمعها. تعتمد هذه السياسة على اعتقال النشطاء وتضييق حرية التعبير والنشاط السياسي. ومع ازدياد الاعتقالات الإدارية وتشديد الأحكام القضائية، تتصاعد عمليات القمع، ويُستهدف المتظاهرون والقيادات السياسية بشكل أكبر، مما يزيد من التوتر ويُعمق شعور الفلسطينيين بالظلم وفقدان الحرية والكرامة.
ثالثًا: محاكمة المستقبل
الأمر الأخطر في لائحة الاتهام هو الافتراض القائم على "إمكانية" أن تؤدي تصريحات الشيخ كمال خطيب إلى أعمال عنف مستقبلية، رغم غياب أي رابط مباشر بين أقواله وأفعال ملموسة. هذا الأسلوب، المعروف بـ"محاكمة النوايا"، يوضح أن لائحة الاتهام لم تستند إلى أدلة قانونية راسخة، بل اعتمدت على تصورات مسبقة ونوايا مفترضة، مما يجعل هذا الملف نموذجًا صارخًا لمحاكمة النوايا وافتراضات مستقبلية.
ويعكس هذا التوجه، الذي يجسد منطق النيابة في محاكمة المستقبل، تصاعدًا في تعامل الجهاز القضائي الإسرائيلي مع التعبير السياسي الفلسطيني كمصدر تهديد بدلًا من اعتباره ممارسة مشروعة وحقًا أساسيًا. يُنظر إلى الفلسطيني العربي دائمًا كمشتبه به، ليس فقط بناءً على أفعاله وأقواله، بل أيضًا بناءً على ما قد يقوله أو يفعله مستقبلًا.
بناءً على ما سبق، تُجسد محاكمة الشيخ كمال خطيب بوضوح منطق النيابة الإسرائيلية الذي يُحاكم الفلسطينيين عبر ثلاثة أزمنة متداخلة: الماضي، من خلال تجريم استحضار الرواية التاريخية، الحاضر، عبر اعتبار التعبير عن المواقف الوطنية تهديدًا أمنيًا، والمستقبل، من خلال افتراضات ونوايا يُزعم أنها قد تؤدي إلى العنف لاحقًا. وعليه، لا تُعد هذه القضية استثناءً فرديًا، بل تمثل تعبيرًا عن منظومة قانونية-أمنية تستهدف الوعي والهوية الفلسطينية، وتسعى إلى إخضاع المجتمع الفلسطيني في الداخل، وضبطه وقمعه.
وتتجلى هذه السياسة في ملاحقة ممنهجة تطال النشطاء والقيادات السياسية، ولا سيّما من التيار الإسلامي المحظور منذ عام 2015. وهكذا، تتحول محاكمة الشيخ كمال خطيب إلى مرآة تعكس آليات السيطرة التي تُمارسها الدولة، ليس ضد الأفعال وحدها، بل ضد الأفكار والانتماء والذاكرة، في مشهد يؤكد استمرارية الإقصاء المنهجي الذي يعيشه الفلسطينيون في الداخل. وتعكس أيضًا كيف تحول القضاء الإسرائيلي من سلطة يُفترض أن تحمي العدالة إلى أداة بيد المشروع الاستعماري، تُسخر لتجريم الانتماء والرواية، وتمنح القمع شرعية قانونية. فالشيخ كمال لا يُحاكم كشخص، بل كممثل للرمز الديني الإسلامي وللرواية الفلسطينية نقيضة للسردية الصهيونية، ما يجعل من محاكمته محاكمة للقناعات الدينية وللرواية الجماعية وحق الشعب الفلسطيني في السرد والتعبير والوجود.
لكن الأهم من كل ذلك، هو إدراك القيمة التوثيقية لهذه المحاكمة. فحتى في ظل منظومة استعمارية لا تنشد العدالة، يظل توثيق الرواية من وجهة نظر الضحية- لا الجلاد- أمرًا ضروريًا. إن تسجيل هذه المحاكمات في سجلات القضاء الإسرائيلي، حتى إن جاءت نتائجها مُجحفة، يفتح نافذة لتعرية دور هذا الجهاز في ترسيخ الاضطهاد والتمييز. فالمعركة القانونية هنا ليست فقط من أجل الإنصاف، بل من أجل كتابة التاريخ كما عاشه المقهورون، لا كما صاغه المهيمنون. وكما يقول المثل الأفريقي: "طالما أن الأسود لا تملك مؤرخين، فستظل حكايات الصيد تُمجد الصيادين وحدهم".
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency