المسكين
ناجي ظاهر
.. وما إن قدّمت لي الشاعرة الخمسينية من بنات بلادي، مجموعتها الشعرية الجديدة، حتى تناولتها مرسلًا نحوها ابتسامة ُمجامِلة مُشجِّعة وقائلًا: لقد تابعتُ وقائع ندوة عن مجموعتك السابقة.. قُدُمًا وإلى الامام. ابتسمت الشاعرة بنوعٍ من الخفر المفتعل وهي تسألني، ضمن محاولة عرفت فيما بعد دافعها: أعرف أنك قارئ مُحبّ للكتاب وأنك مُطّلع واسع الاطلاع على ما يُكتب ويُنشر من أعمال أدبية، خاصة في مجال الشعر.. صمتت لحظة وتابعت: هل قرأت شيئًا مما كتبته ونشرته؟.. أعادني سؤالها هذا إلى النطق بكلمة مجاملة أخرى. قلت بلى قرأت لك. عادت تسألني: هل أعجبك؟.. اضطررت للقول، بالطبع أعجبني.. إلى الامام. هُنا شعرت الشاعرة المنتصرة في الوصول إلى ما أرادت ورمت، وسألتني: إذا كان قد أعجبك. لماذا لا تكتب عنه؟.. حافظت هذه المرّة أيضا، على صمتي مُوحيًا إليها أنني سأقوم بالكتابة عن موهبتها الرهيبة في كتابة الشعر. وانصرفت إلى شأني قبل أن تدعوني لشرب فنجان قهوة سُخن من الغلوة للكلوة.
نلتقي بمثل هذه الشاعرة وأقرانها في مجال الكتابة في هذا المحفل الادبي. هذه الأمسية أو تلك، وعادة ما نتلّقى عددًا مِن الكتب التي أصدرها أصحابُها على نفقتهم الخاصة، وأقول أصحابها، لأنني أضم الرجال، إضافة إلى النساء اللواتي اكتشفن مواهبهن في الكتابة الشعرية أو النثرية على كبر، فهذا هو الوضع الادبي الراهن، وبدلًا من أن يطبع الكاتب ما يُنتجه من إبداع أدبي في كتاب شعري أو نثري ويطلب من أصدقاء له مُساعدته في توزيعه للمحيطين بهم، رغبة في تغطية تكاليف الطباعة، كما كان يحدث في الماضي، ها نحن في هذه الفترة، نلتقي بمن يَطبع كتابه مضحّيًا ببضعة آلاف من الشواكل، في الف داهية، وموزّعًا إياه مجانا، على معظم، اذا لم يكن على كلّ مَن يلتقي بهم من المهتمين وغير المهتمين، إنه يفعل هذا كلّه لهدف بسيط جدًا هو الحصول على نظرة اعتراف أو تحبيذ مِمّن يقوم بإهدائهم كتابه. لا أكثر.
عندما قدّمت لي تلك الخمسينية مجموعتها الشعرية الجديدة، المُضافة إلى خمس مجموعات سابقة، كتَبتها خلال السنتين الماضيتين، نظرتُ إلى البعيد، ورحتُ أفكّر فيما يحدث في مجال إصدار الكتب في بلادي، فهل تحوّل الزمن من الحلم بإنتاج ما يبقى، يؤثر ويمكث في الأرض، من الابداع الادبي؟.. ليبات حلمًا آخر كلّ هدفه الشكر الاجتماعي، ممثّلًا بكلمة الشاعرة فلانة أو الكاتب فلان؟.. بعبارة أوضح هل تغلب أخيرًا البُعد الاجتماعي للكتابة على الشكل الإبداعي.. اقصد بهذا الأخير الدافع رقم واحد لكلّ ابداع حقيقي؟..
لم انتظر الإجابة على هكذا سؤال، فها هي وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام عامةً، تقدمه إليّ على طبقٍ من سُرعة..، انتظروا.. قريبًا سيصدر للكاتب المُبدع ستة كتب دفعة واحدة، أما الشاعر عليان فقد فرغ مِن كتابة ما يساوي أربع مجموعات شعرية، وهو بصدد طِباعتِها دفعةً واحدة أيضًا، ليتحف بها قراءه المُنتظرين. أما تلك النجمة الأدبية فقد صدر كتابُها السابع، التي تصدره خلال السنة الجارية.. فانتظروه.
إلى هكذا وضع وصل الحَراك الادبي في بلادنا، وبالمختصر، هناك مَن يُصدر، على نفقته الخاصة، وإذا كان مِن المُتنفّذين القادرين، فإنه يطبع على نفقة إحدى المؤسسات الكبيرة، في مقدمتها مفعال بايس، بعد أن يُقدّم ناشر متنفذّ ما يُقدّمه إليه افراد مجموعته المقرّبين. بعدها يحصل/ الناشر الهُمام، على ميزانية كافية ومُرضية، وفي وقت تالٍ يقوم بطباعته، أما الاحتفالات والتكريمات وأمسيات الاشهار، فقد باتت حاضرة وبانتظار مَن يُحرّك جِمارَها لتهبّ، بعد خبوّ، وليتمّ فيها توزيع الكتب مجانًا وبكرم حاتمي، أما القراء فإنهم، عادة ما لا يقرأون ما يُقدّمه إليهم أصحاب الكتب الصادرة حديثًا، وإذا بادروا إلى قراءته، فإنهم عادة ما يكونون واحدًا من اثنين، إما دكتور مُجامل من درجة رفيعة.. يقوم بقراءة الكتاب بهدف تقديم دراسة ارفع عنه، ستعقد لاحقًا، وإما كاتب تمّ تخجيله أولًا واستكتابه ثانيًا، مِن قِبل صاحب.. أو صاحبة الكتاب، ويزداد احتمال الاستجابة للاستكتاب المطلوب والمرغوب به إذا كانت صاحبة الكتاب الجديد امرأة مُطلّقة أو أرملة خمسينية.
أعرف أن السبب في هكذا وضع، يعود إلى العديد من العوامل، منها الزمن السائل وفق تعبير المفكر وعالم الاجتماع البولندي المعروف عالميًا زيجموند باومان، ذلك أنه لا يوجد هُناك في عالمنا ما هو ساكنٌ جامد، كما كان يحدث في الازمان الغابرة أو الماضية، بقدر ما وُجد ما هو سائل ودائم التدفق، بمعنى أنك إذا أردت أن تكون موجودًا وأن تُعلن عن كينونتك، لا بُدّ لك مِنَ السعي والمُبادرة والعمل بالتالي على تسويق ذاتك، لأنك ما لم تفعل هذا، فإن أحدًا لن يفعله لك او من اجلك، كما رأت كاتبة يهودية في كتاب لها عن التسويق الذاتي. وربّما كمنَ وراء مثل هكذا وضع دافعٌ آخر، هو البحث عن الذات في عالم لا يُمكنك أن تكون حاضرًا فيه، إلا بنوع من التضخيم الذاتي في أنظار الآخرين. أما إذا قارنّا وضع "كتّابنا" الجدد هؤلاء، في هذه الفترة، بوضع الكاتب في العالم الغربي، فإن الامر يختلف كليًّا، فما زالت هناك في الغرب، دور نشر تَقبل أو تَرفض ما يُقدّمُه إليها الكتاب، وما زال الكاتب الغربي في هكذا وضع، مشروعًا لإنسانٍ.. كاتبٍ ثريّ في حال الموافقة على طباعة كتابه أولًا ونجاحه ثانيًا.. أما الكاتب الجديد في بلادي، بشكل عام، فقد بات أشبه ما يكون بالإنسان المسكين الذي يبحث عمّن يحترمه، يعترف به ويقدره، ولو مقابل بضعة آلاف من الشواكل المُقتطَعة مِن مُدّخراته الشحيحة.
*الصورة أدناه لعالم الاجتماع البولندي الشهير زيجموند باومان. صاحب الثقافة السائلة.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency