مقدمة:
في فضاء الأدب العربي الحديث، تتمازج ثنائية الذات والآخر، الغربة والانتماء، الألم والأمل، لتتجسد في نصوص تنبض بالوجع الإنساني والحنين الوجودي. ويُعدّ الشاعر الجوهري من أبرز الأصوات التي ارتفعت في هذا السياق، حاملة همّ الإنسان العربي، وتمثّلاته المتعددة في سياقات اجتماعية وثقافية متباينة. ومن خلال عدسة أسلوبية دقيقة، يمكننا سبر أغوار هذا الأدب الذي تشكّل بين هاجس الاغتراب من جهة، ونبض الإنسانية من جهة أخرى.
أولاً: الاغتراب كنسق وجودي ولغوي
يظهر الاغتراب في شعر الجوهري كحالة روحية تتجاوز المكان والجغرافيا، إلى اغتراب الذات عن ذاتها، عن محيطها، عن الوطن، وعن المعنى. ولا يعبّر عن هذا الاغتراب من خلال الخطابة المباشرة، بل عبر تشكيلات لغوية وصور فنية تنسجها مخيلته في نسيج من الحزن والانفصال الداخلي.
يقول الجوهري:
"أهذي إلى ظلّ المسافة / والريح تأخذني إلى شجر الغياب
في ضفّتي وطنٌ تأجّل / والضفاف من السراب..."
في هذا المقطع، نلاحظ كيف يتم تحويل المسافة والريح والضفاف إلى رموز دلالية لاغتراب الشاعر عن وطنه وذاته. اللغة هنا مشحونة بالحنين والانكسار، ويتجلى فيها أسلوب التقديم والتأخير، والانزياح الدلالي الذي يخلق مفارقة بين المتوقّع والمعاش.
ثانياً: "جداريات لون الإنسانية" كتمثيل للوعي الجمعي
في قصائد الجوهري، تتخذ الإنسانية طابعًا جداريًا، وكأن الشاعر يرسم مشاهدها على حوائط الذاكرة، أو على "جدران المدينة" كما يسميها في بعض قصائده. وفي جدارياته الشعرية، تتعدد صور الإنسان: المشرّد، الفقير، الطفل، المرأة، الشهيد، اللاجئ... ليكون الكائن الإنساني هو "المعادل الموضوعي" لمعاناته الوجودية.
في إحدى قصائده يقول:
"على جدار الوقت / طفلٌ يلوّن وجعه بأصابع من طين
أمّه حبلى بالعتمة / وأبوه يسقط في كلّ نشرة أخبار
والسماء لا تُمطر إلا رمادًا..."
هنا، تتجسد الجداريات في بنية بصرية لغوية، حيث يزاوج الشاعر بين الصورة الشعرية واللوحة التشكيلية، في نوع من التكثيف الأسلوبي عبر التشبيه والاستعارة المركّبة. كما يظهر الأسلوب السردي الشعري الذي يمنح النص بعدًا توثيقيًا وتاريخيًا لحالة الإنسان العربي في مشهده المعاصر.
ثالثاً: البنية الأسلوبية بين التكرار والانزياح
يميل الجوهري إلى استخدام أدوات أسلوبية مميزة مثل التكرار، سواء على مستوى اللفظ أو التركيب أو الصورة، ما يمنح النص إيقاعًا داخليًا يعكس اضطراب الذات وتكرار المعاناة. كما يعتمد على الانزياحات التركيبية التي تُفجّر اللغة من الداخل، وتُحرّر المعنى من قوالبه المألوفة.
ومن أبرز شواهد ذلك، ما ورد في ديوانه الأخير:
"أنا... أنا...
من أين أبدأ موتي؟
الكلمات تمشي على عكّازة / والقصيدة مصلوبة على باب المساء"
يتكرر الضمير "أنا" ليعكس أزمة الهوية، ويتحول الموت إلى بدء، والقصيدة إلى شهيدة، في مشهد تتداخل فيه الذات مع اللغة، ويذوب فيه الشاعر داخل نصه، لتصبح الكتابة فعلاً وجوديًا بامتياز.
رابعاً: اللغة بين الرمزية والواقعية
يجمع الجوهري في لغته بين الرمزية الشفافة والواقعية القاسية، فلا ينغلق في غموض الحداثة، ولا يسقط في فجاجة المباشرة. بل يُحافظ على التوازن بين الإيحاء والوضوح، في لغة تسير على حافة المعنى، وتحمل في داخلها رموزًا إنسانية مألوفة.
في إحدى قصائده ذات الطابع الرمزي يقول:
"القمر لا يضيء لي الطريق
إنه مجرد حجرٍ معلّق
يشبه رأسي حين أفكّر في الهزائم"
يتحول القمر من رمزٍ تقليدي للرومانسية، إلى رمزٍ للهزيمة والتشظي، ويعيد الشاعر بذلك شحن الرموز الكلاسيكية بدلالات جديدة، وهذا مما يمنح أسلوبه خصوصية وفرادة.
خاتمة:
إن قراءة أدب الجوهري من منظور أسلوبي تتيح لنا الوقوف على جدلية العلاقة بين الذات المغتربة والإنسانية الجدارية، بين الحزن الفردي والهمّ الجمعي، بين الانزياح اللغوي وصدق التجربة. فشعره ليس فقط صدى لغربة داخلية، بل هو مرآة إنسانية لعصرٍ متصدّع، وشهادة فنية على زمن يكتب فيه الشعراء بالدمع والحبر معًا.
مراجع ومصادر:
1. الجوهري، ديوان: "جداريات لون الإنسانية"، دار الرافدين، بيروت، 2022.
2. عبد الملك مرتاض: في نظرية القراءة والتأويل، دار هومة، الجزائر، 2001.
3. صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص، دار الشروق، القاهرة، 1993.
4. عز الدين المناصرة: المثاقفة والنقد المقارن، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 2002.
5. دراسات في الأسلوبية الحديثة، تأليف: جماعة من الباحثين، منشورات جامعة دمشق، 2015.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency