حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن عزلة إسرائيل ليس مجرد تحذير، بل هو توصيف دقيق لحالة قائمة تتسارع بشكل غير مسبوق. حين يتحدث عن "الانكفاء" و"الاكتفاء الذاتي"، فهو لا يرسم رؤية استراتيجية، بل يقر ضمنيًا بأن إسرائيل باتت في مواجهة مباشرة مع واقع دولي جديد، واقع لا يمكن تجاوزه بالشعارات أو المناورات الدبلوماسية.
إسرائيل، التي لطالما افتخرت بكونها "أمة ناشئة"، تجد نفسها اليوم في عزلة سياسية واقتصادية عميقة. فكرة الاكتفاء الذاتي التي يطرحها نتنياهو تبدو مستحيلة، ليس فقط لأنها غير واقعية اقتصاديًا، بل لأنها تتجاهل الطبيعة البنيوية للاقتصاد الإسرائيلي. فالدولة لا تملك بنية زراعية مكتفية، ولا قاعدة صناعية متكاملة. هي تعتمد على الاستيراد في كل شيء تقريبًا، من الغذاء إلى الطاقة، ولا تنتج حتى دراجة هوائية واحدة. اقتصادها متمركز في البرمجيات والخدمات، وليس في التصنيع أو الإنتاج المادي، ما يجعل فكرة "الاقتصاد الأوتاركي" أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع, فكرة تناسب التاريخ فقط, مثل سبارطه.
العزلة التي تواجهها إسرائيل ليست مجرد موقف سياسي عابر، بل هي نتيجة تراكمات طويلة، تفاقمت بعد الحرب في غزة. في البداية، حظيت إسرائيل بدعم دولي واسع تحت شعار "الحق في الدفاع عن النفس"، لكن بعد مرور عامين على القتال وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين، بدأت الدول تعيد حساباتها. أوروبا، التي كانت الحليف الأقرب، بدأت تتراجع. إسبانيا فرضت حظرًا على الأسلحة، وسلوفينيا سبقتها بخطوات أكثر حدة. ألمانيا، التي تُعد أكبر مزود للسلاح بعد الولايات المتحدة، أوقفت صادراتها. فرنسا، بريطانيا، هولندا، بلجيكا، وحتى إيطاليا، كلها اتخذت خطوات تقيد التعاون العسكري مع إسرائيل. بعض هذه الدول لم تكتف بوقف التصدير، بل منعت مرور السفن والطائرات التي تحمل معدات عسكرية إلى إسرائيل، وفرضت قيودًا على دخول الجنود الإسرائيليين إلى أراضيها.
خارج أوروبا، الصورة لا تقل قتامة. تركيا فرضت حظرًا اقتصاديًا شاملًا. كندا جمدت تراخيص تصدير الأسلحة. كولومبيا قطعت العلاقات العسكرية. وحتى الولايات المتحدة، رغم دعمها التقليدي، شهدت تذبذبًا في موقفها، حيث أوقف بايدن شحنات أسلحة حساسة، قبل أن يعيد ترامب فتحها لاحقًا. هذه التحولات ليست مجرد ردود فعل سياسية، بل تعكس تغيرًا عميقًا في المزاج الدولي تجاه إسرائيل، مدفوعًا جزئيًا بتغيرات ديموغرافية وفكرية في الغرب، فمثلا تزايدت نسبة المسلمين في أوروبا وكندا، ما خلق ضغطًا على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر انتقادًا لإسرائيل، في محاولة لكسب أصوات هذه الكتلة الانتخابية.
التحليل الاقتصادي لهذا الوضع يكشف هشاشة النموذج الإسرائيلي. الاقتصاد الذي يعتمد على التصدير، خصوصًا في قطاع التكنولوجيا، لا يمكنه الصمود في ظل عزلة تجارية. تعليق اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، كما اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الواردات، انخفاض الصادرات، وتراجع الاستثمار الأجنبي. هذا يعني انكماشًا اقتصاديًا داخليًا، هروب شركات ناشئة، وارتفاع البطالة، خصوصًا في القطاعات المرتبطة بالتصدير. حتى الصناعات الدفاعية، التي كانت مصدر فخر اقتصادي، تواجه اليوم خطر الانكماش بفعل القيود المفروضة على تصدير الأسلحة.
السيناريوهات المستقبلية ليست مطمئنة لإسرائيل. وقد نشهد انكماشًا اقتصاديًا داخليًا، يضغط على الميزانية العامة ويؤثر على الخدمات الاجتماعية. السيناريو الأكثر تفاؤلًا هو إعادة هيكلة استراتيجية، تتضمن مراجعة للسياسات الخارجية، وتقديم تنازلات دبلوماسية، في محاولة لاستعادة العلاقات مع أوروبا. لكن هذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية، واعترافًا بأن السياسات الحالية تجاه الفلسطينيين لم تعد قابلة للاستمرار.
في النهاية، العزلة ليست مجرد حالة سياسية، بل تهديد اقتصادي وجودي. إسرائيل لا تملك بنية تحتية تؤهلها للاكتفاء الذاتي، ولا شبكة تحالفات بديلة قادرة على تعويض الغرب. الحل لا يكمن في الانكفاء، بل في إعادة التموضع، وفتح قنوات دبلوماسية جديدة، والاعتراف بأن الاقتصاد الإسرائيلي لا يمكنه أن يعيش في فراغ دولي. إن تجاهل هذا الواقع لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة، وربما إلى نقطة اللاعودة.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency