إذا ما حاولنا إجراء مراجعة أدبية لما كُتب ونُشر حول "هبّة الكرامة" باعتبارها حدثًا مفصليًا في مسيرة العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر (أراضي الـ48)، سنجد كمًّا ملحوظًا من المقالات والدراسات العلمية، إلى جانب مقالات الرأي التي عكست مواقف وأفكار كتّابها على اختلاف اتجاهاتهم وأسلوبهم. وقد جرى الاعتماد على قسم منها كمصادر ومراجع موثوقة وُثّقت في هوامش الكتاب وقائمة مراجعِه. ومن أبرز ما نُشر في هذا السياق كتاب الباحث خالد عنبتاوي "هبّة في حالة عتبة" الصادر العام الماضي، والذي قدم مقاربة سوسيولوجية للفعل الانتفاضي الشعبي لفلسطينيي الداخل في ظل الواقع الاستعماري الاستيطاني.
يتّضح إذن أن هناك اهتمامًا معرفيًا معتبرًا بأحداث "هبّة الكرامة" وتداعياتها، تناول زوايا متعددة من التجربة. غير أن السؤال الجوهري يبقى مطروحًا: ما الجديد الذي يقدمه كتاب "القمع المُقنّن: الانتهاكات الحقوقية والسياسية بحق معتقلي هبّة الكرامة (2021): توثيق وتحليل قانوني)"، الصادر عن مؤسسة ميزان، والذي أعددته (س.غ)؟ وما هي القيمة المضافة التي يُسهم بها في مسار الإنتاج المعرفي حول مسيرة وواقع العرب الفلسطينيين في الداخل، باعتبارهم جزءًا أصيلًا من الشعب الفلسطيني ومن الأمتين العربية والإسلامية؟ هنا تبرز أهمية تجاوز التكرار واجترار الأفكار السابقة، والسعي نحو فتح آفاق تحليلية جديدة لمقاربة هذا الحدث المفصلي.
وهذا تحديدًا ما تسعى هذه المقالة إلى مقاربته، إذ إن الكتاب لا يكتفي بتوثيق لحظة حساسة في تاريخ فلسطينيي الداخل (48)، بل يشكل أيضًا وثيقة حقوقية وسياسية تُسهم في فهم أعمق لسيرورة التمييز والإقصاء.
ينطلق الكتاب من الفصل الأول، المعنون "مدخل إلى سياق وأبعاد هبّة الكرامة" (ص 17–25)، ليضع القارئ أمام الخلفيات البنيوية التي فجّرت الأحداث، كاشفًا التمييز المتأصل ضد المواطنين العرب في مختلف مجالات الحياة، وعلى رأسها المجال القضائي. فقد شكلت الهبّة نقطة تحوّل في العلاقة بين المواطنين العرب ومؤسسات الدولة، وأبرزت كيف تحوّل الجهاز القضائي من أداة يُفترض أن تضمن العدالة، إلى أداة فاعلة في تثبيت السيطرة القومية وتكريس القمع السياسي.
وفي هذا السياق، يُقدم الكتاب قراءة تحليلية معمّقة لأحداث أيار/مايو 2021 من خلال توثيق الانتهاكات في مدن مثل اللد ويافا وعكا، كاشفًا ازدواجية المعايير القضائية والتفاوت في التعامل بين العرب واليهود، وكيف استُخدمت أدوات القانون لترسيخ التفوق العرقي وتعزيز "يهودية الدولة" على حساب مبادئ الحرية والعدالة. كما يربط لحظة الهبّة بالسياق السياسي–القانوني الأوسع الذي أتاح بروزها، مبرزًا البنية العميقة للتمييز والعنصرية التي يعاني منها المواطنون العرب الفلسطينيون في الداخل.
ومن بين الإسهامات اللافتة للكتاب توثيق جدول موسع للأحكام القضائية المشددة وغير المسبوقة بحق المعتقلين. فقد وصلت بعض العقوبات إلى أكثر من 15 عامًا، في حين أن العقوبات في ملفات مشابهة لم تكن تتجاوز سابقًا خمس سنوات. كما سجل الكتاب أحكامًا بالسجن خمس سنوات فأكثر بحق 27 شابًا عربيًا، ما يعكس تصعيدًا خطيرًا في تعامل الجهاز القضائي مع المتهمين العرب، ويؤكد تغلغل الاعتبارات السياسية والأمنية في قرارات المحاكم. ووفقًا للمعطيات الرسمية، قدّمت النيابة العامة 397 لائحة اتهام طالت 616 متهمًا، بينهم 545 عربيًا مقابل 71 يهوديًا فقط، في مؤشر إضافي على الانحياز البنيوي في عمل الأجهزة القضائية.
ويُوضح الكتاب أن الجدول الموثق يقتصر على 83 حالة من بين لوائح الاتهام، وذلك لأسباب متعدّدة أبرزها: استمرار نظر بعض القضايا وعدم صدور أحكام نهائية، رفض بعض العائلات التعاون لأسباب شخصية أو أمنية، معالجة بعض الملفات في إطار جنائي بحت، إضافة إلى القيود المفروضة على قضايا القاصرين. ومع ذلك، تتيح هذه العيّنة إمكانية رصد أنماط متكررة في التكييف القانوني وشدة العقوبات والدوافع السياسية التي وجهت أداء النيابة العامة وأحكام المحاكم، بما يعكس ملامح الانحياز المؤسسي المتجذر في المنظومة القضائية الإسرائيلية تجاه المواطنين العرب.
ويعزز الكتاب حجته من خلال مقارنة بين الأحكام الصادرة بحق متهمين يهود تورطوا في أعمال عنف قومية، وبين العقوبات المغلظة التي فُرضت على متهمين عرب في قضايا مماثلة. وتُظهر هذه المقارنة ازدواجية صارخة في تطبيق القانون؛ إذ إن الأحكام المشددة بحق بعض اليهود تبقى محدودة العدد ولا تغيّر من واقع التمييز البنيوي، حيث جاءت عقوباتهم أقل قسوة رغم جسامة الجرائم، بينما عوقب العرب بأحكام طويلة وقاسية. ولو ارتُكبت تلك الجرائم بالاتجاه المعاكس، لكانت العقوبات على العرب أشد وأكثر صرامة، كما تكشفه المعطيات نفسها.
إن هذه الإضاءة على مضامين الكتاب تبرز القيمة المضافة التي يسهم بها في مسار الإنتاج المعرفي حول مسيرة وتاريخ العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. ويأتي هذا العمل في إطار التزام مؤسسة ميزان الدائم بتوثيق الانتهاكات ومناهضة الظلم وتعزيز حقوق الإنسان، انسجامًا مع رسالتها في تقديم تقارير موثوقة تشكل شهادة حقوقية وأخلاقية على السياسات الإقصائية، وتسهم في رفع منسوب الوعي والمساءلة والمناصرة. ومن هنا، يُقدَّم الكتاب كمرجع توثيقي وتحليلي للمعنيين بالدفاع عن حقوق الإنسان، وكأداة تساعد في بلورة مسارات نضال قانوني أكثر فاعلية في مواجهة المنظومة الاستعمارية العنصرية.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أتوجه بجزيل الشكر إلى مؤسسة ميزان على ثقتها وإتاحة المجال أمامي لإعداد هذا الكتاب، وعلى اهتمامها المتواصل في تحويل قضايا المعتقلين وضحايا التمييز والعنصرية إلى مادة بحثية وحقوقية موثقة. كما أخص بالشكر المحاميين عمر خمايسي ومصطفى سهيل محاميد على مساهمتهما القيّمة في إعداد وتحرير هذا العمل، حتى خرج بالصورة التي أرجو أن تليق بأهمية اللحظة وتخدم غاياتها الحقوقية والبحثية والتوثيقية.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency