مِنَ الصَّوْتِ إِلى الصَّمْتِ: إِسْتِرَاتِيجِيَّاتُ التَّعْبِيرِ النِّسْوِيِّ فِي الشِّعْرِ وَالقِصَّةِ الحَدِيثَةِ

د. أحمد كامل
نُشر: 26/09/25 11:53

منذُ بدايات الأدب النسويّ العربيّ، ارتبطت الكتابة النسويّة بالصوت بوصفه أداة مقاومة للهيمنة الذكوريّة والسلطة الأبويّة التي كبّلت المرأة لقرون طويلة. فقد كان الشعراء والكاتبات النسويات منذ فدوى طوقان ونازك الملائكة وصولاً إلى رضوى عاشور وسحر خليفة وسعاد الصباح ينظرون إلى الكتابة بوصفها فعلاً وجوديًّا، ورسالة اجتماعيّة، ووسيلة لإعلان الذات، لكنّ قراءة متأنيّة للنصوص الشعريّة والسرديّة النسويّة تكشف أنّ القوّة التعبيريّة للمرأة لم تقتصر على الصراخ والمواجهة المباشرة، بل امتدّت إلى الصمت الذي يتحوّل إلى أداة مقاومة جماليّة وفكريّة في الوقت ذاته. من هنا تنبع أهميّة دراسة ثنائية الصوت والصمت في الأدب النسويّ الحديث، حيث يصبح الصمت لغة بديلة توازي الصوت أو تتجاوزه في تأثيره الدلاليّ والجماليّ.

لقد ارتبط مفهوم الصمت في الفلسفة والأدب بفكرة المسكوت عنه، وبأنّه أحيانًا علامة على العجز عن التعبير أو مساحة لترك المعنى مفتوحًا أمام المتلقي، وهو مفهوم تتبناه بعض الدراسات النقديّة العربيّة الحديثة عند النظر في الكتابة النسويّة. في الأدب النسويّ العربيّ، يظهر الصمت في الشعر والرواية بوصفه استراتيجيّة متعمدة، لا مجرد غياب للكلام. فعند فدوى طوقان في رحلة جبلية، رحلة صعبة (طوقان، 1993: 45) نجد الصمت في طفولتها بسبب القيد الاجتماعيّ والتعليم المحرم، لكنّه يتطوّر لاحقًا ليصبح عنصرًا أساسيًّا في شعرها، حيث يستخدم البياض بين السطور والفراغات كمساحات تعبيريّة عن الجرح الداخليّ والحنين إلى الحريّة. هذا الصمت ليس علامة على الانكسار، بل على تراكم المعنى والقدرة على تحويل الألم إلى شكل فنيّ مغاير، يعكس الصراع الداخليّ للمرأة ويتيح لها التعبير بطرق لا يمكن للغة المباشرة أن تستوعبها.

كما تجسّد نازك الملائكة في شعرها التجريبيّ، ولا سيما في شظايا ورماد (الملائكة، 1949: 33)، حضور الصمت عبر الغياب والفراغات، حيث يصبح السكون أداة للتأمل والتمرّد الداخليّ على الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يفرض على المرأة الحياد أو الخضوع. إنّ استخدام الفراغات والتقطيع الطباعيّ في قصيدة النثر ليس مجرد وسيلة جماليّة، بل استراتيجيّة للتعبير عمّا لا يُقال، وتحويل الصمت إلى مساحة تعبيريّة غنيّة بالمعنى. كما أنّ سعاد الصبّاح، في أعمالها مثل أوراقي… حياتي (الصباح، 1986: 78)، توظف لحظات الصمت والغياب اللفظيّ عبر علامات الحذف والانقطاع المفاجئ، مما يخلق نصوصًا مفتوحة على التفسير، ويمنح القارئ دورًا في إكمال المعنى وقراءة ما وراء الكلمات.

أما في القصّة والرواية النسويّة، فإنّ الصمت يحمل أبعادًا دراميّة وسياسيّة أكبر. ففي ثلاثيّة غرناطة لرضوى عاشور (عاشور، 1994: 112) نجد نساءً صامتات أمام الظلم التاريخيّ والسياسيّ، لكنّ صمتهن ليس استسلامًا، بل شكل من أشكال المقاومة الداخليّة، يعكس صمودهن وقدرتهن على الصمود أمام فقدان الهويّة والحقوق. هذه الاستراتيجيّة نفسها تظهر في روايات سحر خليفة، حيث تُفضّل الشخصيات النسائيّة الصمت أحيانًا على الكلام الفارغ، مؤكدات أنّ الصمت يحمل محتوى سياسيًّا وجماليًّا، ويمكن أن يكون وسيلة للتمرّد على الاستعمار والسلطة الأبويّة في الوقت ذاته (خليفة، 1974: 56). ومن خلال المونولوج الداخليّ، يتحوّل الصمت في النصوص النسويّة إلى تدفق داخليّ يعبر عمّا لا يمكن التصريح به اجتماعيًّا، مما يعكس قدرة المرأة على إعادة صياغة خبرتها الحياتيّة بأسلوب أدبي مبتكر.

من زاوية أخرى، يرتبط الصمت بتجربة الجسد المقموع، فالمرأة التي يُسلب منها صوتها في المجال العامّ، تجد في الصمت مساحة لاستعادة ذاتها والتعبير عن رغباتها الداخليّة بطريقة غير مباشرة. وفي روايات علويّة صبح، نجد الشخصيات النسائيّة تستخدم الصمت للتعبير عن الرغبة والحرمان، ويمثل الصمت الجسديّ لغة بديلة، توازي في تأثيرها اللغة المنطوقة (صبح، 2002: 90). إنّ ما لا تستطيع المرأة قوله بشكل مباشر يمكن أن يُقال عبر صمتها، الذي يتحوّل إلى خطاب إيحائيّ يتطلب من القارئ حساسيّة عالية لفهم المعاني الضمنيّة.

إنّ ما يميّز توظيف الصمت في الأدب النسويّ أنّه لا يُقدّم بوصفه نقيضًا للصوت، بل بوصفه وجهًا آخر للتعبير، فالصمت أحيانًا يكون أكثر فعاليّة من الكلام المباشر لأنّه يترك للقارئ مساحة للقراءة بين السطور وفهم ما يُراد التعبير عنه بطرق ضمنيّة. فالبياض، الفراغ، الانقطاع الطباعيّ، وعلامات الحذف (…) تمثل جميعها أدوات لتحويل الصمت إلى لغة غنيّة بالمعنى، وهي تقنيات شاع استخدامها في الشعر النسويّ الحديث وفي نصوص القصّة المعاصرة. وبهذا، يصبح الصمت في النصوص النسويّة العربيّة وسيلة لا تقلّ قوّة عن الصوت في التعبير عن الألم، الرغبة، الحريّة، والتحرر الداخليّ.

تتضح هنا أهميّة دراسة ثنائيّة الصوت والصمت في الأدب النسويّ الحديث، حيث تتشابك النصوص الشعريّة والسرديّة لتخلق فسيفساء تعبيريّة متكاملة. فالصوت في شعر سعاد الصباح يعكس الحريّة والإعلان عن الذات، بينما الصمت في نصوص فدوى طوقان ورضوى عاشور يشكّل مساحة للتمرّد الداخليّ ولتجربة التعبير الإيحائيّ. هذه الثنائيّة تكشف عن استراتيجيات مبتكرة تستخدمها الكاتبات العربيات لإثراء النصوص الأدبيّة، وتعيد الاعتبار إلى الصمت بوصفه أداة تعبيريّة معقدة وفعالة. ولا يمكن اختزال الأدب النسوي في الصوت وحده، بل ينبغي النظر إلى الصمت كعنصر مركزيّ في إنتاج النصّ الأدبيّ وفهمه، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من اللّغة النسويّة الحديثة.

إنّ إعادة النظر في الصمت بوصفه استراتيجيّة تعبيريّة ضمن الأدب النسويّ العربيّ تفتح آفاقًا واسعة لدراسات نقديّة جديدة، وتعيد ترتيب المفاهيم السائدة حول الكتابة النسويّة. فالأدب النسويّ لا يقوم فقط على إعلان المقاومة بالصوت العالي، بل يتعدد في أساليبه، حيث يصبح الصمت لغة بديلة تحمل معانٍ سياسيّة واجتماعيّة وفنيّة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ عنوان "مِنَ الصَّوْتِ إِلى الصَّمْتِ" يعبّر عن حركة انتقاليّة أكثر عمقًا، توضح أنّ الكتابة النسويّة العربيّة الحديثة لم تكتفِ بالمواجهة الصريحة، بل ابتكرت لغات وأساليب مختلفة لإيصال رسالتها، تجعل من النصّ الأدبيّ تجربة غنيّة ومفتوحة على التأويل.

ثبت بالمراجع

خليفة، سحر. (1974). لم نعد جواري لكم. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

الصباح، سعاد. (1986). أوراقي… حياتي. الكويت: دار سعاد الصباح.

صبح، علوية. (2002). مريم الحكايا. بيروت: دار الآداب.

طوقان، فدوى. (1993). رحلة جبلية، رحلة صعبة. عمّان: دار الشروق.

عاشور، رضوى. (1994). ثلاثية غرناطة. القاهرة: دار الهلال.

الملائكة، نازك. (1949). شظايا ورماد. بغداد: مطبعة الأهالي.

الطيرة – 25.9.2025

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة