أبو القاسم الشابي
مصطفى معروفي
ـــــــ
عندما أقرأ الشابي وشوقي وأبا ماضي أشعر بإحساس يغمرني ، هو إحساس النشوة والمتعة،فهؤلاء في نظري أعطوا للقول الشعري بهاء ورونقا،وقربوا منه القارئ وجعلوه مباليا ومهتما به عاكفا عليه بالحفظ أو بالتأمل والترديد.وأنا كنت من هؤلاء المريدين للشعراء الثلاثة،وقد حببني فيهم وإليهم أساتذتنا في اللغة العربية الذين تتلمذنا على يدهم،فجعلونا لا نأنس بصحبة الثلاثة فقط،بل نحيا معهم في شعرهم وكأننا نراهم رأي العين.وأتذكر أنني حفظت لشوقي بعض قصائده في اللوح،مثلما يفعل أي تلميذ يتردد على المسيد لحفظ القرآن الكريم،ولهذا وأنا لم أبلغ سن المراهقة بعد كنت أحفظ قصيدة"ولد الهدى" ، وقصيدة "النيل" عن ظهر قلب عن طريق اللوح ، وفي المدرسة حفظت "إرادة الحياة"و "من أغاني الرعاة " و "صلوات في هيكل الحب" لأبي القاسم الشابي ،كما حفظت "فلسفة الحياة" لإيليا أبي ماضي،وهي قصيدة لبث معي حفظها لحد الساعة،وقصيدة"ابتسم"،وهما من روائع الكلم والقصيدة.
ما يجمع الشعراء الثلاثة هو المعاناة والجحود ،وخاصة من الأصدقاء أو ممن كان الظن فيهم أنهم أصدقاء.واليوم أفرد بالحديث واحدا من هؤلاء وهو أبو القاسم الشابي.
أبو القاسم (19خح ـ 1934)شاعر تونس العظيم ولد في قرية الشابّية بولاية توزر جنوبي تونس ،أبوه محمد كان قاضيا،وشاعرنا كان مريضا بالقلب بحيث كان يشكو انتفاخا فيه،والمهم أن العالم العربي عرفه سنة 1933 حينما نشر في مجلة "أبولّو"قصيدته (صلوات في هيكل الحب) ، وهذه القصيدة يراها البعض بأنها كانت ثورة في الشعر العربي الحديث،تؤرخ لمدرسة باذخة في أدب العاطفة .
وللشاعر بحث بعنوان "الأدب العربي في العصر الحاضر" قال فيه باختصار:
"ليس لنا أن نطالب الشاعر في شعره بغير الحياة".
وهذا الرأي منه تمثل في قصيدته (صوات في هيكل الحب) إذ يقول فيها:
عــذبــة أنــت كــالطفولة كــالأح
لام كــالــحن كــالصباح الــجديد
كالسَّماء الضَّحُوكِ كاللَّيلَةِ القمراءِ
كــــالــوردِ كــابــتــسامِ الــولــيدِ
يـــا لــها مِــنْ وَداعــةٍ وجــمالٍ
وشَـــبـــابٍ مُــنــعَّــمٍ أُمْــــلُــودِ
يــا لــها من طهارةٍ تبعثُ التَّقدي
سَ فـــي مــهجَةِ الــشَّقيِّ الــعنيدِ
يــا لــها رقَّــةً تَــكادُ يَــرفُّ الوَرْ
دُ مــنها فــي الــصَّخْرَةِ الــجُلْمودِ
وللأسف فإن عاما واحدا مر بعد نشره هذه القصيدة في مجلة "أبولّو " توفي رحمه الله وعمره 25 ربيعا فقط.
كان الشابي عفيفا في حبه،ولا يرى الأنثى إلا هيكلا للعبادة،ومحرابا للطهارة وكعبة للفن.وكان مجددا ،وينشر آراءه في الملإ ،فلقي عنتا شديدا من المحافظين وسدنة القديم،حتى امتلأ قلبه من الغيظ و اليأس ،واقتنع بمقولة المسيح عليه السلام:
"لا كرامة لنبي في وطنه".
يقول في قصيدته(النبي المجهول):
أَيُّــها الــشَّعْبُ لــيتني كنتُ حطَّاباً
فــأهوي عــلى الــجذوعِ بــفأسي
لــيتني كــنتُ كــالسُّيولِ إِذا سالتْ
تَــهُــدُّ الــقــبورَ رمــســاً بــرمسِ
لــيتني كــنتُ كــالرِّياحِ فــأطوي
كــلَّ مَــا يــخنقُ الزُّهُورَ بنحسي
لــيــتني كــنتُ كــالشِّتاءِ أُغَــشِّي
كــلّ مَــا أَذْبَــلَ الــخريفُ بقرسي
لــيتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي
فــأَلــقي إلــيــكَ ثَـــوْرَةَ نــفــسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصيرِ إنْ ضجَّتْ
فــــأدعــوكَ لــلــحــياةِ بــنــبــسي
لــيتَ لــي قــوَّةَ الأَعــاصير لكن
أَنْــتَ حــيٌّ يــقضي الحَيَاة برمسِ
أَنْـــتَ روحٌ غَــبِيَّةٌ تــكره الــنُّور
وتــقضي الــدُّهُور فــي ليل مَلْسِ
إلى أن يقول فيها:
نْــتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ
حــوالــيكَ دون مـــسٍّ وجَــبَّــسِ
في صباحِ الحَيَاةِ ضَمَّخْتُ أَكوابي
وأَتــرعــتُــها بــخــمرَةِ نــفــسي
ثـــمَّ قَــدَّمْــتُها إلــيــكَ فــأَهرقْتَ
رحــيقي ودُســتَ يا شعبُ كأسي
فــتــأَلَّمتُ ثـــمَّ أسْــكَــتُّ آلامــي
وكَــفْكَفْتُ مــن شــعوري وحسّي
ثــمَّ نَــضَّدْتُ مــن أَزاهــيرِ قلبي
بــاقــةً لـــمْ يــمــسَّها أيُّ إنْــسِي
ثـــمَّ قَــدَّْمــتُها إلــيــكَ فــمــزَّقْتَ
ورودي ودُسْــــتَــــهَــا أَيَّ دَوْسِ
ثــمَّ أَلــبسْتَني مــنَ الــحُزْنِ ثــوباً
وبِــشَوكِ الــجبالِ تَــوَّجْتَ رأسي
إنَّــني ذاهبٌ إلى الغابِ يا شعبي
لأقــضي الــحَيَاةَ وحــدي بــيأسِ
إنَّــني ذاهــبٌ إلــى الــغابِ علِّي
فــي صــميم الغاباتِ أَدفنُ بؤسي
وهي قصيدة تفيض حزنا وأسى على شعب لا يفهمه ،بل ربما لا يريد أن يفهمه،ففضل النأي بنفسه إلى مكان هادئ يجد فيه الراحة والطمأنينة.
ومع ذلك فالشاعر كان محبا لوطنه حبا وثنيا،يدعو أبناءه إلى الحرية،ويحرضهم على مقاومة الاستعمار والثورة عليه،والدفاع عن حياض الوطن، هاتفا في قصيدته التي يحفظها الشعب العربي ويرددها،وهي قصيدة " إرادة الحياة"التي مطلها هو:
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فــلا بُــدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُـــدَّ لــلَّيْلِ أنْ يــنجلي
ولا بُـــدَّ لــلقيدِ أن يَــنْكَسِرْ
وفي هذه القصيدة يقول:
ومَــن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ
تَــبَخَّرَ فــي جَــوِّها وانــدَثَرْ
فــويلٌ لــمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ
مــن صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ
كــذلك قــالتْ لــيَ الكائناتُ
وحــدَّثَني روحُــها المُستَتِرْ
ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجاجِ
وفوقَ الجبالِ وتحتَ الشَّجرْ
إِذا مَــا طَــمحْتُ إلــى غايةٍ
رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ولــم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ
ولا كُــبَّةَ الــلَّهَبِ الــمُستَعِرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ
يَــعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
والشاعر أبو القاسم اجتمع عليه ثلاثة من الأمور كانت سببا في احتراقه النفس والبدني ،وهي الحب واضطهاده من طرف محبي الجمود المتعلقين بالقديم،واضطهاده من طرف المستعمر الغاشم،حتى توفي رحمة الله عليه.
وأحب أن أختم بأبيات له كأنه يفرح فيها باقتراب الخلاص من حياة الشقاء و المعاناة:
قَدْ دعاني الصَّباحْ
ورَبــيــعُ الــحَــيَاهْ
يــا لــهُ مِــنْ دُعاءْ
هــزَّ قــلبي صَداهْ
لــمْ يَــعُدْ لــي بقاءْ
فَــوْقَ هذي البقاعْ
الْـــوَداعَ الــوَداعْ
يــا جِــبَالَ الهُمومْ
يــا ضَبابَ الأَسى
يــا فِــجاجَ الجحيمْ
قَــدْ جرى زَوْرَقي
في الخِضَّمِ العَظيمْ
ونــشرتُ الــقلاعْ
فــالوَداعْ الــوداعْ
رحم الله شاعرنا الكبير رحة واسعة ،وأسكنه فسيح جناته على ما تركه لنا من شعر ترتاح فيه الروح ويبتهج له القلب ويأنس فيه الوجدان.
اللهم هيء لنا من أمرنا رشدا.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency