تمر خمسة وعشرون عامًا على هبّة القدس والأقصى، وما زالت تلك اللحظة حاضرة في وجدان الفلسطينيين في الداخل، ليس فقط كذكرى دامية، بل كمنعطف تاريخي كشف طبيعة الصراع مع المشروع الصهيوني وأسقط الوهم الذي رُوّج له تحت عنوان "السلام" بعد اتفاقيات أوسلو. فقد كان اقتحام أريئيل شارون لباحات المسجد الأقصى في نهاية أيلول/سبتمبر 2000 الشرارة التي فجّرت الغضب الشعبي وأشعلت احتجاجات امتدت من القدس إلى الضفة وغزة والداخل الفلسطيني. وقد دفع الفلسطينيون ثمنًا باهظًا بلغ آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، بينهم ثلاثة عشر شهيدًا من الداخل، ليؤكدوا أن الدفاع عن الأقصى ليس شأنًا محليًا أو فئويًا، بل قضية جامعة لكل الشعب الفلسطيني وللأمتين العربية والإسلامية.
جاءت الهبّة لتكسر جدار العزلة الذي سعت اتفاقيات أوسلو إلى تكريسه، فأعادت توحيد الساحات الفلسطينية وأعادت الاعتبار للقدس والأقصى كمحور للصراع. ولم تكن انتفاضة مطلبية من أجل مساواة مدنية في دولة تقوم بنيتها على التمييز، بل كانت انتفاضة هوية وسيادة أكدت أن الاحتلال لا يُواجه بالتكيّف أو بوعود التسوية الهشّة، وإنما بالنضال الشعبي وروح التلاحم الوطني. هذه الحقيقة جعلت المؤسسة الإسرائيلية ترى في الهبّة تهديدًا استراتيجيًا لمشروع الأسرلة، الذي يقوم على محاولات تفريغ الفلسطينيين في الداخل من مضمونهم الوطني ودفعهم للاندماج في بنية الدولة الإسرائيلية كأفراد بلا هوية جماعية، مقابل وعود محدودة بالتنمية والحقوق المدنية، بما يحوّلهم إلى أقلية تابعة ضمن نظام يكرس التفوق اليهودي.
ومع مرور الوقت، أصبحت النجاحات التي تُسجل في الداخل الفلسطيني غالبًا إنجازات فردية في مجالات التعليم والأكاديميا والصحة والاقتصاد وغيرها، دون أن تتحول إلى قوة جماعية تخدم المشروع الوطني الفلسطيني الجامع، بل في محطات عديدة شكلت هذه النجاحات الفردية عائقًا أمام بناء مشروع وطني جامع بفعل استيعابها داخل منظومة الأسرلة بدل أن توظف لخدمة الهوية الوطنية. وتحولت كثير من بلدات الداخل، بدل أن تكون منارات للتغيير الإيجابي الحقيقي، إلى ما يشبه فنادق للراحة والاستهلاك لأصحاب هذه النجاحات الفردية، في وقت تتطلب فيه المرحلة أن تكون حاضنات للفعل الوطني والاجتماعي القادر على مواجهة التحديات.
بدل أن تعترف إسرائيل بشرعية الاحتجاج الذي فجّرته سياساتها التمييزية والاحتلالية، اختارت سياسة العقاب والتجريم. فقد حمّلت لجنة أور قيادات إسلامية ووطنية بارزة مسؤولية ما سمّته "التحريض"، وأعادت إنتاج سردية رسمية تلصق تهمة العنف بالقيادات العربية. وهكذا تحوّل الدفاع عن المسجد الأقصى من موقف إسلامي ووطني مشروع إلى تهمة أريد بها تقييد الصوت العربي وتدجينه وإضعاف دوره في الساحة السياسية.
ورغم ذلك، مثلت الهبّة محطة فارقة في تعميق الوعي الوطني لدى جيل جديد من فلسطينيي الداخل، وأعادت التذكير بأنهم ليسوا أقلية تبحث عن مساواة شكلية، بل جزء أصيل من شعب يواجه مشروعًا استعماريًا يستهدف الأرض والهوية معًا، وأنّ القضية ليست تحسينًا لشروط المواطنة بل صراع تحرّري ضد منظومة استعمارية. ومن هنا جاء ردّ المؤسسة الإسرائيلية بسياسة العصا والجزرة؛ إذ غضت الطرف عن تفشي العنف والجريمة والسلاح داخل المجتمع العربي، بل وُجهت إليها اتهامات بالتواطؤ أو التقصير المتعمد، ما فاقم موجات العنف وأضعف الروابط المجتمعية وأشغل الناس بصراعات أنهكتهم وأبعدتهم عن قضاياهم الوطنية. وفي المقابل، روّجت لمسارات الأسرلة والاندماج كبديل براق عن النضال الوطني، عبر برامج ومشاريع بعنوان التنمية والتكامل والتعايش، ومولت جمعيات مدنية سخية الهدف لتوجيه وعي الفلسطينيين في الداخل بعيدًا عن هويتهم الوطنية وقضيتهم السياسية.
لكن هذه السياسات فشلت في اجتثاث جذوة الوعي الوطني، وهو ما أكدته الهبّات الشعبية اللاحقة. ففي النقب تجددت المواجهة مع الدولة ضدّ سياسات مصادرة الأرض وتجريف القرى غير المعترف بها، وفي هبّة الكرامة في أيار/مايو 2021 هبّ الفلسطينيون في الداخل إلى جانب القدس وغزة رفضًا لاقتحامات الأقصى ومحاولات تهجير أهالي الشيخ جراح، وأعادوا مشهد الوحدة الشعبية، في حين ردّت إسرائيل بحملة اعتقالات جماعية ومحاكمات سياسية هدفت إلى ردع هذا الحراك وإجهاض آثاره.
ومنذ اندلاع الحرب على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهي حرب أعادت قضية فلسطين إلى الوعي العربي والإسلامي والعالمي، دخلت إسرائيل مرحلة جديدة من القمع السياسي غير المسبوق في الداخل الفلسطيني. فقد استُهدف النشطاء والطلاب وأئمة المساجد وغيرهم بالاعتقالات والتحقيقات لمجرد التعبير عن آرائهم أو تعاطفهم مع ضحايا الحرب، وتوسعت المحاكمات بتهم "التحريض" و"دعم الإرهاب"، وأُغلقت جمعيات مدنية وخيرية، في محاولة ممنهجة لإسكات الصوت الفلسطيني وتجريم الهوية الوطنية. هذه السياسات أعادت إلى الأذهان ما شهدته مرحلة ما بعد هبّة الأقصى، لكنها اليوم أشد قسوة وتنظيمًا مستفيدة من أجواء الحرب وخطاب الشيطنة.
ويحدث كل ذلك بينما يمرّ المسجد الأقصى بأصعب مراحله منذ عقود. فقد تكثفت اقتحامات المستوطنين لساحاته تحت حماية قوات الاحتلال، وفُرضت قيود مشددة على دخول المصلين الفلسطينيين، خاصة في مواسم الأعياد اليهودية، في محاولة واضحة لتغيير الوضع التاريخي القائم وفرض واقع تهويدي متدرج. ويتزامن ذلك مع تحولات فكرية وسياسية داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث بات الحديث عن بناء "الهيكل" جزءًا من الخطاب اليومي، ومشروعًا مدعومًا بقرارات وتحضيرات ميدانية، ما يجعل التهديد للأقصى أكثر خطورة من أي وقت مضى. هذا التصعيد يستغل الأوضاع الراهنة لفرض وقائع جديدة، في ظل صمت عربي وإسلامي رسمي وشعبي يبعث على الأسى تجاه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
إنّ تجربة العقود الماضية تثبت أنّ الرهان الإسرائيلي على الأسرلة فشل في سلخ الفلسطينيين في الداخل عن قضاياهم الوطنية، وأنّ القمع وتغذية العنف الداخلي لم يتمكنا من إخماد جذوة الهبّات الشعبية. بل على العكس، كلما تصاعد العدوان على القدس والأقصى أو اشتدت السياسات الاستيطانية والقمعية، تجدد الحراك الشعبي وانبعثت روح التضامن والنضال. واليوم، فيما يواجه الأقصى أخطر مراحله ويخضع الفلسطينيون في الداخل لحملة قمع أمني وسياسي غير مسبوقة، تتجدد الحاجة اليوم إلى استلهام دروس تلك الهبّات، وفي مقدمتها قيم الوحدة والوعي والصمود، وتجديد معاني النضال الشعبي كخيار وطني جامع في مواجهة مشروع استعماري ما زال يراهن على كسر إرادة الشعب الفلسطيني، لكنه يفشل في كل مرة أمام صلابتها وثباتها.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency