هل يحق لنا أن نحلم؟

محمد دراوشة
نُشر: 06/10/25 20:33

في مساء خريفي هادئ في برلين، وعلى هامش مؤتمر سنوي تنظمه أكاديمية روبرت بوش الألمانية، بعنوان "فكِّر، حاوِر، ألهِم"، جلستُ مع أحد كبار المفكرين الألمان، رجلٌ عاش الحرب وشهد السلام، وتحدث بامتنان عميق لجيرانه الأوروبيين الذين كانوا يومًا أعداء بلاده. قال لي: "لقد منحونا هدية الوحدة بعد أن مزقتنا الحرب، لم يكن ذلك انتصارًا، بل كان فعلًا من أفعال النضج الإنساني".

كلماته لم تكن مجرد تأملات في التاريخ، بل كانت دعوة للتفكير في المستقبل. كيف استطاعت أوروبا أن تتحول من ساحة صراعات دامية إلى نموذج للتكامل السياسي والاقتصادي؟ كيف تصافحت فرنسا وألمانيا بعد أن أُغرقت أراضيهما بالدماء؟ كيف أصبحت بولندا وجمهورية التشيك شركاء في الاتحاد الأوروبي بعد عقود من التوتر والاحتلال؟

الجواب لا يكمن فقط في الاتفاقيات السياسية، بل في إرادة الشعوب لإعادة تأهيل العلاقات، وفي الاستثمار في التربية على السلام، وفي بناء منظومات اقتصادية وأمنية مشتركة، وفي الاعتراف المتبادل بالخطأ والاعتذار، وفي تجاوز الماضي دون نسيانه.

بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا مدمرة جسديًا ونفسيًا. ملايين القتلى، مدن مهدمة، شعوب ممزقة. لكن من قلب هذا الدمار، نشأت فكرة جديدة: أن السلام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالتعاون. وهكذا بدأت مسيرة طويلة من المصالحة، قادتها شخصيات تاريخية مثل كونراد أديناور، شارل ديغول، وروبرت شومان، الذين آمنوا أن مستقبل أوروبا لا يمكن أن يُبنى على الكراهية.

تأسس الاتحاد الأوروبي ليس فقط كمشروع اقتصادي، بل كمشروع سلام. الحدود التي كانت تُرسم بالدماء أصبحت تُفتح أمام التجارة والسفر والتعليم. جيل جديد نشأ وهو يرى في "الآخر" شريكًا لا خصمًا. وتمت إعادة تأهيل العلاقات عبر برامج تبادل طلابي، ومناهج تعليمية جديدة، ومؤسسات ثقافية مشتركة، ومشاريع بنية تحتية تربط بين الدول بدل أن تفصلها.

في ظل المفاوضات الجارية في شرم الشيخ، وبين أصوات الأمل والشك، يحق لنا أن نسأل: هل يمكن للشرق الأوسط أن يسير في طريق مشابه؟ هل يمكن أن تتحول ساحات الصراع إلى منصات تعاون؟ هل يمكن أن نرى يومًا تُفتح فيه الحدود بين شعوب المنطقة ليس للمدافع، بل للأفكار والفرص؟

الجواب ليس بسيطًا، لكنه ليس مستحيلًا. الشرق الأوسط يحمل جراحًا عميقة، بعضها حديث وبعضها متجذر في التاريخ. لكن كما في أوروبا، فإن بداية التحول لا تأتي من القادة وحدهم، بل من الناس. من المعلمين الذين يزرعون قيم التسامح، من الفنانين الذين يرسمون صورًا جديدة للهوية، من الشباب الذين يرفضون أن يرثوا الكراهية، ومن الأمهات اللواتي يحلمن لأطفالهن بمستقبل أفضل.

لكي يتحقق السلام الحقيقي، يجب أن نعيد تأهيل العلاقات بين الشعوب، لا فقط بين الحكومات. وهذا يتطلب:

- إصلاح المناهج التعليمية: لتعليم التاريخ من منظور متعدد، يعترف بالمعاناة المشتركة ويُعزز قيم الحوار.
- التعاون الاقتصادي: لأن المصالح المشتركة تخلق روابط أقوى من الشعارات.
- العدالة الانتقالية: عبر الاعتراف بالظلم، وتقديم الاعتذارات، وتعويض الضحايا.
- المبادرات الثقافية: التي تُعيد تعريف "الآخر" كجزء من النسيج الإنساني، لا كتهديد.
- الأمن المشترك: عبر بناء منظومات إقليمية تُعزز الاستقرار وتُقلل من منطق الردع العسكري.

شرم الشيخ: لحظة اختبار

المفاوضات الجارية اليوم في شرم الشيخ ليست مجرد حدث دبلوماسي، بل لحظة اختبار لخيالنا السياسي. هل نستطيع أن نحلم؟ هل نملك الشجاعة لنفكر بما بعد وقف إطلاق النار؟ هل يمكن أن نرسم خريطة جديدة للمنطقة، لا تُبنى على تقسيمات استعمارية، بل على إرادة الشعوب؟

ربما يبدو هذا الحلم بعيدًا، لكن أوروبا كانت في يومٍ ما أبعد. في عام 1945، لم يكن أحد يتخيل أن ألمانيا وفرنسا ستتشاركان في برلمان واحد. لكن الحلم بدأ بخطوة، وبكلمة، وبإرادة.

في زمن الحروب، يُقال إن الحلم رفاهية. لكن الحقيقة أن الحلم هو ضرورة. لأن من لا يحلم، لا يستطيع أن يبني. ومن لا يتخيل مستقبلًا مختلفًا، يبقى أسير الماضي. نحن في الشرق الأوسط بحاجة إلى سردية جديدة، لا تُنكر الألم، لكنها لا تُقدّسه. سردية تُعيد للإنسان إنسانيته، وللجغرافيا معناها، وللسياسة أخلاقها.  الطريق طويل، لكنه ليس مستحيلًا. ويحق لنا، بل يجب علينا، أن نحلم.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة