الشاعر الذي يشبه حروفه

رانية مرجية
نُشر: 07/10/25 17:47

١. في البدء كانت الحروف… وكان هو.

قبل أن تُخلق الأرضُ من الضوء،

كان الشاعرُ هناك — يهمسُ في الفراغ:

«لتكن الكلمة، ليكون الوجود».

فانشقَّ الصمتُ عن أولِ حاءٍ،

وانبعثتْ من فمهِ رائحةُ الحبرِ كدمٍ طريٍّ في كفِّ الخلق.

هو لم يُولد كما يولد الناس،

بل انبثق من جرحٍ في لسانِ اللغة.

كأن الله حين تعبَ من الأسماء،

خلقَ شاعرًا كي يُسمّي الأشياء مرّةً أخرى.



 

٢. هو الذي يشبه حروفه… ولا يفارقها.

يمشي وفي عروقه نهرُ أبجدية،

وفي عينيه قافلةُ مجازاتٍ لا تنام.

إذا لمسَ الورقَ نزفَ الضوء،

وإذا كتبَ سقطَ المطرُ في فمِ الفكرة.

لا يكتبُ الكلمات، بل يستدعي أرواحها،

يُقسمُ بالحبر كما يُقسم العارفُ بالأسرار:

«والنونِ، والقلمِ، وما يسطرون…»

لأنه يعلم أن كلّ حرفٍ

هو نجمٌ سقطَ من مدارِ الخلود.



 

٣. الحرفُ دمُه، والمعنى جلده.

كلُّ بيتٍ في قصائدهِ ضلعٌ من ضلوعه،

وكلّ نقطةٍ في نهايةِ سطرٍ

هي ثقبُ رصاصةٍ في صدره.

هو شاعرٌ يشبهُ حروفه…

إذا ضحكَ، غنّت القوافي،

وإذا بكى، انكسرتْ المرايا في صدرِ اللغة.

هو ليس من هذا العالم،

إنه الكائنُ الذي يكتبُ ليُشفى،

ويُشفى ليكتب.



 

٤. نبوءةُ الحرف: الشاعر ككاهنٍ للدهشة.

عندما تغيبُ الشمسُ عن قصيدته،

يُشعلُ مجازًا، ويقول للظلال:

تعالوا، سنبني الليل من المعاني.

وحين تنكسرُ اللغةُ بين يديه،

يجمعُ شظاياها كما يجمعُ العاشقُ

ذكرياتِ امرأةٍ راحلة،

ينفخُ فيها حتى تضيءَ ثانيةً.

إنه لا يكتب ليصفَ العالم،

بل ليعيدَ خلقه.

فالشاعر الذي يشبه حروفه

هو الذي يعرف أن الخلاصَ لا يأتي من السماء،

بل من جملةٍ صادقةٍ تُقال في لحظةِ وجع.



 

٥. الشاعرُ… المنفيُّ في اللغة.

هو آخرُ الغرباء في أرضٍ لا تُحبّ الشعراء،

يحملُ صليبه من الحبرِ،

ويمشي إلى جلجلتهِ على صفحاتٍ بيضاء.

يتّكئ على صمته،

ويقول لنفسه:

«إنّ الكلمةَ التي لا تجرح، لا تُنقذ».

كلُّ حرفٍ يكتبهُ هو اعتراف،

وكلُّ سطرٍ صلاة،

وكلُّ قصيدةٍ قبرٌ صغير

يُدفنُ فيه جزءٌ من روحه.



 

٦. الحروفُ تعرفه أكثر مما يعرف نفسه.

حين يتعب،

تخرج الحروفُ من دواخله،

تمسحُ جبينه بظلِّ المعنى،

وتهمس له:

«قم، ما زال فينا نبضٌ من دهشة،

وما زال فيك شغفُ البدايات.»

هي لا تُطيقُ غيابه،

ولا يحتملُ هو وجودها.

كأنهما عاشقانِ أزليان:

تقتله إن سكت،

وتُبعث به من رمادهِ إن كتب.



 

٧. المعركة الأبدية بينه وبين المعنى.

هو لا يبحثُ عن الكلمات،

بل يحاربها.

ينازعها كما ينازعُ النبيُّ الشكَّ في وحيه،

ويُجلدُ بها كما يُجلدُ العارفُ بسؤاله الأخير.

كلُّ قصيدةٍ عندهُ معركة،

يخرجُ منها خاسرًا في العلن،

منتصرًا في الخفاء،

لأنه يعرف أن النصرَ الحقيقيّ

هو أن ينجو الحرفُ من فوضى النسيان.



 

٨. الشاعرُ الذي يشبهُ حروفه لا يموت.

يموتُ الجسدُ في الصباح،

لكنّ القصيدةَ تبقى تسعلُ صوته في الليل.

حين يذوبُ الحبرُ في التراب،

يُزهرُ وردٌ أسود على قبره،

وحين يقرأ أحدهم قصيدته بعد مئة عام،

يستيقظُ قلبُه من الرمادِ،

ويبتسم.



 

٩. الميتافيزيقا الأخيرة للحرف.

يقول في آخر أنفاسه:

«أنا الحرفُ الذي عادَ إلى أصله،

أنا القصيدةُ التي كتبتْ نفسها بالدم،

أنا ظلُّ اللغة حين تصلي.»

ثم ينام،

ويُفتح في السماء كتابٌ من الضوء،

تخرجُ منه الكلماتُ طيورًا،

تحملُ وجهه إلى الأبدية.



 

١٠. الخاتمة: الأسطورةُ لا تُروى بل تُكتب.

هو الشاعرُ الذي يشبهُ حروفه…

لا لأن حروفه جميلة،

بل لأنها مثلهُ:

تتألمُ لتُنير،

وتحترقُ لتدفئ،

وتغيبُ لتظلّ حاضرةً في نبضِ الأرض.

هو الإنسانُ الذي فهمَ أن الله حين خلقَ الكلمة

كان يريدُ أن يخلق الشعراء،

ليتذكّر الكونُ أنه ما زال قادرًا على الحلم.



 

فيا أيها الشاعر الذي يشبه حروفه،

لا تترك الحبرَ ينام،

فاللغةُ وحدها تعرفُ كيف تُبعث الأمم من موتها.

واكتبْ كما لو أن العالم كلّه

ينتظرُ أن يُغسَلَ بدمِ قصيدتك.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة