جدلية الهوية وجماليات الإيقاع الصوتي وتعدد الدلالة البلاغية في رواية "ميثاق النساء" لحنين الصايغ
تمهيد: عن الكاتبة والرواية
حنين الصايغ، شاعرة وأديبة لبنانية من مواليد عام 1986، تخرّجت في الأدب العربي الحديث، واشتهرت بثلاث مجموعات شعرية قبل أن تضع بصمتها الروائية الأولى عبر عملها البديع "ميثاق النساء"، الصادر عن دار الآداب في بيروت عام 2023، والمرشح ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” لعام 2025.
يمثل عنوان الرواية "ميثاق النساء" نواة رمزية تشتبك فيها المعاني الدينية والاجتماعية والفكرية، إذ تستعيد الصايغ مفردة "الميثاق" من التراث الديني الدرزي – حيث تُشير في أصلها إلى نصوص الحكمة المغلقة الخاصة بالمريدين – لتمنحها بعدًا أنثويًا معاصرًا، يجعل منها رمزًا للتحوّل والوعي والتضامن بين النساء في مجتمع تحكمه البنى الأبوية والعادات الصارمة. هكذا، يتحوّل "الميثاق" من عقدٍ لاهوتي مغلق إلى وثيقة وجدانية وإنسانية تُعيد تعريف علاقة المرأة بذاتها وبالعالم.
ملخّص الرواية
تُقام أحداث الرواية في بيئة ريفية درزية من جبل لبنان، حيث تعيش البطلة أمل بونمر تحت سلطة الأب الحداد المنتمي إلى طبقة المشايخ، والذي يسعى لتشكيل مستقبل بناته الأربع وفق منظوره الديني والاجتماعي المحافظ. تتجلّى منذ البداية معادلة الرواية الكبرى: التعليم والطموح في مواجهة سلطة التقاليد.
تحلم أمل بإكمال تعليمها الجامعي في بيروت، لكنّ طريقها إلى الحلم يمر عبر صفقة اجتماعية قاسية: الزواج من سالم، أحد أثرياء الطائفة، في زواج يبدو كأنه تذكرة عبور إلى الحرية لكنه يتحول إلى قيد جديد. تواجه أمل تأخر الإنجاب، وتدخّل الزوج في تفاصيل حياتها، وضغوط العائلة والمجتمع، لتبدأ رحلة مؤلمة من التساؤل الوجودي حول معنى الإيمان، والاختيار، والذات.
من خلال تعدد الأصوات النسائية – الأم، الجدة، الأخت نرمين، والعمة – ترسم الصايغ بانوراما دقيقة للذاكرة الأنثوية عبر الأجيال، حيث تتقاطع الخضوع والتمرّد، الصمت والبوح، الإيمان والشك. ومع بلوغ الرواية خاتمتها، لا تصل أمل إلى تحرر مادي كامل، بل إلى تحرر معرفي ووعيوي يجعلها تقول بصدق: “الألم هو ميثاقنا المقدّس” (ص.203). فالميثاق هنا ليس قانونًا بل تجربة تطهيرية تفتح العين على الحرية والذات.
المحور الأول: جدلية الهوية بين الانتماء والذات
تُبنى الرواية على صراع مزدوج بين هوية الجماعة وهوية الفرد، وهو صراع يتجاوز الجغرافيا الدرزية إلى سؤال إنساني أوسع حول معنى الانتماء.
تُقدّم الصايغ المرأة بوصفها كائنًا ممزقًا بين صوت الجماعة الذي يطالبها بالانصياع، وصوت الذات الذي يستدعي الحرية. أمل ليست بطلة متمرّدة بمعناها الكلاسيكي، بل امرأة تعي تدرّج الوعي ذاته. تقول في أحد مقاطعها التأملية: “لم أعد أمي، ولا أختي، ولا ابنة أبي... صرتُ امرأة تسأل: لماذا وُجدتُ؟” (ص.179).
من خلال هذا التساؤل، يتحول النص إلى مختبر للهوية الأنثوية في مجتمع مغلق. فالجدة تمثل جيل الصمت المقدس، والأم جيل الخضوع الواعي، والأخت نرمين جيل التجريب والارتداد. هذا التعدد لا يُقدّم الهوية كجوهرٍ ثابت، بل كحركة دائمة بين الذاكرة والرغبة، بين الخوف والتغيير.
المحور الثاني: جماليات الإيقاع الصوتي في النسيج السردي
رغم أن الرواية نثرية في ظاهرها، إلا أن خلفها يختبئ شاعرٌ يكتب بلغة تمتلك موسيقاها الخاصة. يتجلّى الإيقاع الصوتي في النص عبر ثلاث آليات فنية بارزة:
1. المنولوج الداخلي: تنساب الجمل في تدفّق يذكّر بالإيقاع الشعري الحر، حيث تتصاعد الأصوات الداخلية لأمل مثل موجات متتابعة من القلق والاعتراف. هذا المنولوج يُحدث تموّجًا موسيقيًا يوازي اضطراب النفس وتردّدها.
2. المزج بين الفصحى والدارجة: تُدرج الصايغ العبارات المحلية في الحوارات، لتمنح النص نكهته السمعية، وتخلق التباين بين لغة الداخل (الدارجة) ولغة الفكر (الفصحى)، ما يعكس انقسام الشخصية بين بيئتها الموروثة وعالمها الجديد.
3. التكرار الرمزي: كلمات مثل "الخوف"، "الألم"، "الميثاق" تتكرّر كأوتار موسيقية تؤسس إيقاعًا داخليًا، فتصبح بمثابة "نغمة أساسية" تتردد عبر السرد. وعندما تقول الكاتبة في الصفحة 305: “ميثاقٌ من التضامن والفهم والوجع، لم يخطّه أحد في كتاب، ولم يفرضه أحد على النساء”، يتخذ الإيقاع الصوتي بعدًا دراميًا يجمع بين الجرس اللغوي والدلالة الوجودية.
هكذا يتحول النص إلى مساحة سمعية تُقرأ بالأذن قبل العين، فكل جملة تبدو كنبضة تردّد صدى التجربة الداخلية للمرأة التي تبحث عن صوتها.
المحور الثالث: تعدد الدلالة البلاغية والرمزية
يتجاوز النص معناه المباشر نحو شبكة من الرموز والتناصّات، مما يمنحه عمقًا بلاغيًا غنيًا.
فالـ“ميثاق” لا يُقرأ بوصفه عقدًا طائفيًا فقط، بل استعارة لتحوّل الأنثى من الكتمان إلى البوح. الميثاق هنا هو اتفاق صامت بين النساء على تحمّل الألم كطريق إلى الوعي، في استعارة تُقابل الميثاق الديني الذي يربط المريدين بالسرّ الإلهي.
كما تستثمر الصايغ التناص الديني لتفكيك السلطة الأبوية، إذ تستدعي مفردات مثل "الطهر"، "السر"، “الوصية”، لتضعها في سياق أنثوي جديد، فيتحول "السرّ" من أسرار الحكمة إلى سرّ الجسد، و"الطهر" من قيدٍ أخلاقي إلى صفاء وعي.
أما على المستوى البلاغي، فالتكرار، والطباق، والتوازي الصوتي في الجمل القصيرة يمنح النص بُعدًا إيقاعيًا تعبيريًا. ففي جملة مثل: "الخوف يولدنا، والخوف يدفننا، والخوف وحده ينجينا" (ص.111)، يتجلى التكرار كأداة صوتية ومعنوية في آنٍ، تحوّل الخوف من انفعال إلى تجربة وجودية.
خاتمة واستنتاج
تخرج رواية "ميثاق النساء" من رحم الألم لتقدّم نصًا نسويًا واعيًا لا يقوم على الشعارات، بل على الفهم العميق لجدلية الهوية والتحرر. فهي لا تدعو إلى القطيعة مع الموروث، بل إلى إعادة تأويله من الداخل عبر صوتٍ أنثويٍّ يعي ذاته ويعيد صياغة العالم بالكلمة.
جماليات الإيقاع الصوتي في الرواية تُحوّل الصمت إلى موسيقى داخلية، وتجعل من المنولوج واللغة الممزوجة بالدارجة
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency