مدخل: بين اللغة والأزمة
في زمنٍ تتكاثر فيه الأزمات كما تتكاثر الظلال عند الغروب، تتقاطع اللغات كما تتقاطع المصائر.
الناس لا يتكلمون فقط ليفهموا، بل ليتنفّسوا.
وفي هذا المشهد المتشابك، تأتي مهمة توجيه المجموعات ثنائية اللغة بوصفها واحدة من أعقد المهمات وأكثرها نبلاً، لأنها لا تتعلق فقط بتعليم لغة، بل بترميم إنسان يعيش بين لغتين، بين خوفين، وبين ذاكرةٍ لا تعرف بأي لسان تبكي.
اللغة كجسرٍ نحو الآخر
اللغة ليست مجرّد وسيلة تواصل، بل هي جسر من الروح إلى الروح.
في المجموعات الثنائية اللغة، لا يُختبر اللسان فقط، بل يُختبر القلب أيضًا.
كل كلمة تُقال بلغةٍ ليست لغتنا الأولى، تحمل خلفها قلق الهوية، وشوق الانتماء، وارتباك الذاكرة.
وهنا، يصبح الموجّه أشبه بمترجمٍ للوجدان — لا ينقل المعنى الحرفي، بل يترجم الخفاء الإنساني الكامن في النبرة، في الصمت، في العينين.
في الأزمات، تتكسّر اللغة بسهولة، لكنها أيضًا تُعيد بناء الإنسان من رماده.
فكل حوار، مهما بدا بسيطًا، هو تمرين على الشفاء.
التوجيه كفعل وجداني
ليس التوجيه مجرّد مهنة، بل حالة عاطفية واعية.
الموجّه الحقيقي هو من يرى الإنسان قبل اللغة، ويصغي إلى الخوف قبل الكلام.
في لحظات الانقسام والاضطراب، لا يحتاج الناس إلى تلقين، بل إلى طمأنينة، إلى من يقول لهم: “إن لغتك الثانية لا تُلغي الأولى، بل تُكمّلها.”
في عملي الطويل مع المجموعات ثنائية اللغة، اكتشفت أن التوجيه لا يقوم على نقل المهارة فقط، بل على بناء الأمان النفسي والاحترام المتبادل.
فحين يشعر المتعلّم أن لغته الأمّ ليست عيبًا، يبدأ قلبه بالانفتاح على لغة الآخر —
وهذه هي المعجزة التربوية الحقيقية: أن تتحول الجلسة التعليمية إلى مساحة إنسانية للثقة والاعتراف.
ثنائية اللغة كهوية مزدوجة
أن تكون ثنائي اللغة هو أن تسكن وطنين في فمٍ واحد.
إنها نعمة ومعاناة في آنٍ واحد.
ففي الوقت الذي تمنحك اللغة الثانية نافذة على العالم، تذكّرك الأولى بأنك تنتمي إلى ذاكرةٍ أخرى، وبيتٍ آخر، وجرحٍ آخر.
وفي ظل الأزمات، يصبح هذا التناقض مؤلمًا.
يتحوّل السؤال من “كيف أتعلم اللغة؟” إلى “هل أملك الحق في لغتي؟”.
وهنا تبرز أهمية التوجيه الإنساني، الذي لا يفرض هوية لغوية موحّدة، بل يحتفي بالتعدّد، ويحوّل الازدواجية إلى غنى، لا إلى صراع.
فكل لغة جديدة نكتسبها، هي نافذة أخرى نحو التعاطف الإنساني.
اللغة في زمن الخوف
الأزمات تغيّر اللغة كما تغيّر البشر.
تجعل الكلمات أكثر قسوة، والنبرات أكثر حذرًا، والسكوت أطول.
لكن في قلب هذا الصمت، ينمو نوع جديد من الفهم:
أن نُدرك أن التواصل لا يحتاج دائمًا إلى فصاحة، بل إلى صدق.
أن نُدرك أن الجملة التي تُقال بارتباك في لغةٍ ثانية، قد تكون أصدق من قصيدةٍ في لغتنا الأم.
ومن هنا، فإن دور الموجّه في الأزمات لا ينحصر في إدارة الجلسات أو شرح المفردات، بل في إعادة الثقة باللغة.
أن يُعلّم الناس كيف يتكلمون دون خوف، وكيف يصغون دون حذر، وكيف يكتشفون أن اللغة ليست ملكًا لأحد، بل هي حقّ إنساني مشترك.
التوجيه كمساحة للمصالحة
في المجموعات الثنائية اللغة، لا يجتمع الناس لتعلّم القواعد، بل ليتعلموا كيف يعيشون معًا رغم الفروق.
وهنا يتجلّى البُعد الأعمق للتوجيه: أن يصبح جسرًا للمصالحة بين الثقافات، وبين الإنسان ونفسه.
في كل لقاء أراه، ثمة معجزة صغيرة تحدث:
كلمة “سلام” تُقال بلهجةٍ جديدة، فيبتسم الجميع.
ضحكةٌ تكسر الحذر، فتولد الثقة.
وهكذا، يتحول التوجيه إلى فنّ بناء الإنسانية المشتركة — تلك التي تتجاوز اللغة والسياسة والجغرافيا، لتصل إلى ما هو أبعد: القلب.
خاتمة: نحو إنسانية تتكلم بلغتين
في النهاية، لا نوجّه المجموعات ثنائية اللغة لنعلّمها كيف تنطق، بل كيف تنتمي.
نوجّهها لتتذكّر أن اللغة ليست هويةً مغلقة، بل رحلة نحو الآخر.
فحين نفهم أن الكلمة يمكن أن تُنقذ، وأن الحوار يمكن أن يُرمّم، ندرك أن التعليم في جوهره رسالة حبّ، وأن التوجيه، في زمن الأزمات، هو فنّ الصبر والأمل.
اللغات تتعدّد، لكن الإنسانية واحدة.
وكل من يتحدث لغتين يعرف أن القلب لا يحتاج ترجمة.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency