المناظرة التي غيّرت وجه السياسة: دروس من جون كينيدي ونيكسون

د غزال أبو
نُشر: 14/10/25 20:17

في تاريخ السياسة والإعلام، هناك لحظات مفصلية لا تُنسى، لأنها لا تغيّر فقط مصير انتخابات، بل تغيّر فهمنا لطبيعة القيادة والتأثير.
من هذه اللحظات، المناظرة التلفزيونية الشهيرة بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون عام 1960، التي اعتبرها كثيرون أول مناظرة تلفزيونية حقيقية في العالم، وأول امتحان لقدرة الصورة على صناعة الرأي العام.

البداية: شاب واثق مقابل سياسي تقليدي

كان كينيدي وقتها شابًا في أوائل الأربعينات من عمره، طموحًا ومفعمًا بالحيوية، بينما كان نيكسون نائب الرئيس، أكثر خبرة وصرامة، لكنه بدا متعبًا ومرهقًا بعد جولات طويلة في حملته الانتخابية.
قبل المناظرة، التفت كينيدي إلى مستشاريه وقال عبارته الشهيرة:

“سوقوني للشعب الأمريكي كما تسوّقون منتجًا ناجحًا.”

لم يكن يقصد المبالغة أو الدعاية الفارغة، بل أراد أن يُفهم أن السياسة، مثلها مثل التسويق، تحتاج إلى صورة، ورسالة، وإحساس بالثقة.

التحضير الذكي يصنع الفارق

بينما انشغل فريق نيكسون بمضمون الخطاب والأرقام، ركّز فريق كينيدي على التفاصيل التي تصنع الانطباع:
 •  طلبوا أن يكون المكيّف في الاستوديو على درجة منخفضة، ليظهر كينيدي ثابتًا وغير متعرق أمام الأضواء، في حين بدأ العرق يتصبّب من وجه نيكسون مع مرور الدقائق.
 •  اختار كينيدي بدلة زرقاء داكنة تناسب بشرته وتبرز ملامحه الشابة، بينما ظهر نيكسون ببدلة رمادية جعلته يبدو شاحب الوجه.
 •  أصرّ مستشارو كينيدي على أن تكون الإضاءة متوازنة، بحيث تبرز عينيه ونظراته الواثقة.

حتى التفاصيل الجانبية كانت محسوبة: في التجربة التحضيرية، قرر فريق نيكسون أن تكون المناظرة وقوفًا لإظهار القوة، لكن المفارقة أن نيكسون لم يتحمّل الوقوف طويلاً وبدأ يُحرك قدميه بتوتر بسبب آلام قديمة في الركبة، فبدت حركاته غير مريحة أمام الكاميرات، ما أضعف صورته.

بداية ذكية… وكلمة تفتح القلوب

عندما سأل المذيع في بداية المناظرة من سيبدأ الحديث، قال كينيدي بابتسامة هادئة:

“ليبدأ سيدي الأكبر سنًا، فنحن شعب نحترم كبارنا.”

جملة بسيطة، لكنها كانت ضربة ذكية على مستويين:
 •  أظهرت احترامًا وتواضعًا.
 •  ذكّرت المشاهدين بأنه الشاب الذي يمثل المستقبل، مقابل منافسه الذي ينتمي إلى جيل أقدم.

-الصورة التي غيّرت النتيجة

اللافت أن من استمع إلى المناظرة عبر الراديو شعر أن نيكسون كان أكثر إقناعًا، أما من شاهدها على التلفاز فأجمع على أن كينيدي تفوّق.
الصوت وحده لا يكفي، الصورة قالت كلمتها. وهكذا، فاز كينيدي في أعين الناس قبل أن تُفرز صناديق الاقتراع.

-الدروس المستفادة.

هذه المناظرة لم تكن مجرد مواجهة بين رجلين، بل درسًا في علم القيادة والاتصال.
 1.  الانطباع البصري يسبق المنطق
الناس لا تحكم فقط بما تسمع، بل بما تشعر وتراه. لغة الجسد، المظهر، ونبرة الصوت تصنع نصف القرار الانتخابي.
 2.  التحضير الذكي أدق من الكلمات الكبيرة
التفاصيل الصغيرة—درجة حرارة القاعة، لون البدلة، الإضاءة—يمكن أن تكون أكثر تأثيرًا من عشرات الصفحات من الخطاب.
 3.  السياسة فن تسويق القيم والشخصية
كما تُسوّق الشركات منتجاتها، على القائد أن يعرف كيف “يسوّق” ذاته بأخلاقه، حضوره، وطريقته في مخاطبة الجمهور.
 4.  القيادة ليست فقط معرفة… بل طاقة وشعور
الجمهور يبحث عن الأمل، عن الوجه الهادئ والنظرة الواثقة. القائد الحقيقي هو من يبعث الطمأنينة قبل أن يقدم الحلول.

- من واشنطن إلى عالمنا العربي: الدرس باقٍ

هذه القصة، رغم مرور أكثر من ستة عقود عليها، ما زالت تُحدث صداها في عالمنا العربي.
فنحن أيضًا نعيش زمن الصورة، وزمن التواصل الفوري، حيث لم يعد يكفي أن تكون القائد الأذكى أو الأصدق، بل يجب أن تجيد فن الحضور والتأثير.

القائد الذي يطلّ على جمهوره مرتبًا، هادئًا، متوازنًا، قادر على تبسيط أفكاره بلغة قريبة من الناس، يكسب ثقتهم أكثر من مَن يملأ الشاشات بالشعارات.
الجمهور العربي، مثل أي جمهور في العالم، يتفاعل مع الهيبة الممزوجة بالإنسانية، ومع الكلمة الصادقة المغلّفة بالهدوء.

القيادة اليوم لم تعد منبرًا يُطل منه الصوت فقط، بل مشهدًا متكاملًا: جسد، ونظرة، وابتسامة، وصدق.
ومن يتقن هذا الفنّ، كما أتقنه كينيدي، يستطيع أن يقنع ويؤثّر ويقود نحو التغيير.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة