من مجزرة كفر قاسم إلى وعيد لبيد وتهديد بينيت

ساهر غزاوي 
نُشر: 30/10/25 23:27

لا يمكن لنا، في مثل هذه الأيام، إلا أن نستذكر مجزرة كفر قاسم ونستحضرها في وعينا الجمعي، إذ تمر ذكراها الـ 69 التي وقعت في التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر عام 1956، وراح ضحيتها 49 شهيدًا من أبناء القرية. حدثت المجزرة بينما كانت الأنظار مشدودة إلى جبهات العدوان الثلاثي على مصر، غير أن المأساة لم تقع في ميدان قتال ولا في أرض محتلة حديثًا، بل في قلب ما تسميه إسرائيل "دولتها"، ضد مواطنين فلسطينيين مسالمين عائدين من أعمالهم إلى بيوتهم. بأوامر مباشرة من قيادة الجيش، أطلق جنود حرس الحدود النار على الأهالي العائدين عند مدخل القرية بعد فرض حظر تجول مفاجئ لم يُبلغوا به، فسقطوا شهداء في واحدة من أبشع جرائم الحكم العسكري التي كشفت جوهر المشروع الصهيوني وسياساته العنصرية تجاه من تبقى من الفلسطينيين في وطنهم.
لم تكن المجزرة "خطأً في التعليمات" أو "سوء فهم للأوامر" كما زعمت الرواية الرسمية لاحقًا، بل حلقة في سلسلة ممنهجة من سياسات الترهيب والتهجير وإعادة هندسة الوجود الفلسطيني في الداخل بعد النكبة. ومع ذلك، فإن الدم المسفوك في كفر قاسم لم يُرهب أهلها، بل ترسخ في الوعي الجمعي الفلسطيني أن البقاء ذاته فعل مقاومة، وأن الذاكرة سلاح من أسلحة العدالة.
واليوم، وبعد سبعة عقود، لا تزال المجزرة تتكرر بأشكال مختلفة وأدوات جديدة. فمن كفر قاسم إلى غزة، ومن جنين إلى النقب، تمتد الخيوط ذاتها لمشروع استعماري واحد يتغيّر في أدواته ولا يتغيّر في جوهره. فحرب الإبادة التي تواصلت لعامين على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 – ونسأل الله أن تنتهي كليًا لا مرحليًا – ليست سوى الوجه العاري لسياسة استعمارية ممتدة تسعى إلى محو الفلسطيني من الجسد والذاكرة والهوية.
لقد قدّم أهل غزة من التضحيات ما لا يكاد شعب آخر يطيقه؛ آلاف الشهداء من النساء والأطفال، وأحياء تُمحى من الوجود تحت شعارات "الدفاع عن النفس" و"حرب الوجود"، في سلوك يستبيح القيم الإنسانية والأخلاقية، ويكشف عن نزع متعمد لإنسانية الفلسطيني واستدعاء محموم للخطاب الديني التوراتي لتبرير القتل والإبادة. وفي الوقت ذاته، تُمارس في الضفة الغربية سياسة الإعدام الميداني والاعتقال الجماعي، ويستمر هدم البيوت والتوسع الاستيطاني بوتيرة غير مسبوقة. وهكذا تمتد خريطة الدم من غزة إلى جنين ونابلس وطولكرم، ومن كفر قاسم إلى النقب واللد والجليل وسائر أنحاء الوطن، لتؤكد أن الفلسطيني ما زال يعيش بين حياة محاصرة وموت مفتوح، تُسلب منه أرضه وكرامته وحقه في الأمان يومًا بعد يوم. 
وفي الداخل الفلسطيني، يتخذ هذا المشروع وجهًا آخر من المجزرة، أقل صخبًا وأكثر خفاءً، يتمثل في تفشي جرائم القتل والعنف التي تحصد الأرواح يوميًا وسط تواطؤ الدولة وصمت أجهزتها، التي تعرف متى تتغاضى ومتى تُفلت العنان للفوضى. يُقتل الشباب الكادحون في طريقهم إلى أعمالهم، ويُغتال الأمل في الأحياء والقرى، بينما تكتفي الدولة بالمشاهدة كأنّ ما يجري لا يعنيها – بل هو حقًا لا يعنيها، وهذه سياسة بات يعرفها حتى أصغر طفل في الداخل.
وما زلنا نتحدث عن مجزرة كفر قاسم وعن سلسلة من السياسات التي استهدفت إعادة تشكيل الوعي والانتماء الفلسطيني، حتى نسمع اليوم تهديدًا جديدًا من نوعٍ آخر. زعيم المعارضة ورئيس الحكومة الأسبق يائير لبيد أعلن مؤخرًا أنه، في حال فوزه بالانتخابات، سيطرح قانونًا يمنع من لا يتجند للجيش من التصويت. في الظاهر، يبدو أن الهدف هو الضغط على الحريديم، لكن في الجوهر، الخطر الحقيقي أبعد من ذلك؛ فهو يمس جوهر المواطنة ذاتها، ويحاول تحويل الحقوق المدنية والسياسية إلى امتيازات مشروطة بالولاء والخضوع. فالمسألة ليست في مشاركة العرب في الانتخابات من عدمها – فهناك من لا يشارك أصلًا – بل في تكريس منطق خطير يجعل حق التصويت، وسائر الحقوق المدنية والسياسية، رهينة لمدى اندماج الفلسطيني في رواية الدولة ومؤسساتها الأمنية. أي أنها تسعى لتحويل الفلسطيني من مواطن له حقوق أصيلة، إلى خاضع دائم للاختبار والاتهام في انتمائه وولائه. 
ولا يمكن فصل تصريح لبيد عن التحوّل الأعمق في الخطاب الإسرائيلي، حيث باتت الصهيونية العلمانية تتماهى مع المَسيانية القومية. فالرجل الذي طالما قدّم نفسه كوجهٍ ليبرالي معتدل مقابل نتنياهو والتيارات الدينية، ألقى قبل فترة خطابًا أمام دونالد ترامب جاء أكثر تطرفًا ومَسيانية من خطاب نتنياهو نفسه، إذ فاقه في توظيف الخطاب التلمودي وإشباعه بالرموز والمفردات العقائدية. هذا التداخل بين "العلماني" و"المقدس" يكشف عمق التحوّل البنيوي في المشروع الصهيوني، حيث لم يعد الدين يُستخدم لتبرير الوجود فحسب، بل لتبرير سياسات الإلغاء والتمييز ضد الفلسطينيين أيضًا.
أما تهديد نفتالي بينيت الأخير ضد عرب النقب، فهو الوجه الآخر للوعيد ذاته. تصريحات رئيس الحكومة الأسبق، التي ربط فيها بين عرب النقب وهجمات السابع من أكتوبر، تكشف عن عقلية عنصرية ترى في الوجود العربي خطرًا ينبغي "إدارته" لا الاعتراف به. لم يأتِ بينيت بجديد، لكنه عبّر بوضوح عن سياساتٍ قائمة منذ عقود تُهمّش أهل النقب، وتصادر أراضيهم، وتجرّدهم من حقوقهم، بينما يزايد اليوم حتى على بن غفير – من دون التقليل من عنصريته المنفلتة – في تحريضه وهوسه بالهدم والتهجير. إنّ تصويره قرى النقب، وخصوصًا تل السبع، كخطر أمني قادم، ليس سوى تحريض على حرب تهجير جديدة تُنفذ تحت غطاء ما يُسمى بـ"الأمن القومي".
وخلاصة القول إن ما جرى في كفر قاسم وما يجري اليوم في غزة والضفة والنقب ليس فصولًا منفصلة من التاريخ، بل حكاية واحدة تتغيّر وجوهها وتبقى حقيقتها كما هي. فالجوهر واحد، مشروع يسعى إلى كسر إرادة الفلسطيني ومحو حضوره من الأرض والوعي معًا. لم يعد الاستعمار بحاجة إلى الرصاص وحده، بل وجد في القانون والسياسة والخطاب "الديمقراطي" أدوات أكثر نعومة لتبرير الإقصاء والهيمنة. تغيّرت الوسائل، لكن الغاية لم تتبدل؛ ما زال الهدف هو كبح الوعي الفلسطيني وإخضاعه لمنطق الدولة التي تجعل الولاء شرطًا للحق، وترى في الاختلاف خطرًا ينبغي احتواؤه أو إقصاؤه. وما لم تتحوّل الذاكرة إلى وعي، والمأساة إلى موقف، سنبقى نُعيد سرد المجازر بأسماء مختلفة، فيما تستمر الجريمة كل يوم، أمام العالم، وبغطاء من الصمت والتواطؤ.


 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة