موجه المجموعات… المبحر في عوالم النور والصمت

رانية مرجية
نُشر: 03/11/25 18:32,  حُتلن: 18:33

في عالمٍ يزداد ضجيجه، تبهت الأصوات الخافتة التي تنادي بالإنصات، بالرحمة، وبالاحتواء.

وسط هذا الضجيج، يظهر موجه المجموعات — ذاك الإنسان الذي اختار أن يعمل في المساحة الأكثر هشاشة والأكثر صدقًا في الوجود: مع شباب وصبايا من طيف التوحد والإعاقة الذهنية التطورية.

هو لا يحمل فقط مهمة تربوية، بل رسالة وجودية.

هو يعلّمنا نحن — لا طلابه فقط — أن الإنسانية لا تُقاس بالنطق ولا بالقدرة، بل بعمق التواصل، وبالقدرة على الفهم دون شروط.

 حين يصبح الصمت لغة

يظن كثيرون أن التواصل يعني الكلام، غير أن الموجه الذي يعيش مع هذه الفئة يدرك أن الصمت أحيانًا أبلغ من أي خطاب.

ففي نظرة واحدة من أحدهم، في حركة يدٍ عفوية، في ابتسامة غير متوقعة… تختبئ حكايات عمرٍ كامل.

هناك عالم آخر لا يُرى إلا بعين من يؤمن أن الإنسان ليس مجرد أداء أو كفاءة، بل روح تتفتح ببطء، تحتاج من يقترب منها بحنان لا بوصاية، وبفهم لا بشفقة.

 الموج الهادئ الذي يربّي الأرواح

إدارة مجموعة من ذوي التوحد أو الإعاقة الذهنية التطورية ليست مهمة وظيفية، بل تجربة وجودية تصنع إنسانًا جديدًا في كل يوم.

الموجه هنا يعيش بين لحظتين متناقضتين: لحظة النشوة حين يحقق أحدهم تقدّمًا صغيرًا، ولحظة الانكسار حين ينهار ما بُني في لحظة غضب أو ارتباك.

ومع ذلك، يستمر الموجه بابتسامةٍ صبورة، لأنّه يعلم أن كل خطوة، مهما بدت بطيئة، هي إنجاز يوازي المعجزات.

في عالمٍ يقيس النجاح بالأرقام، هو يذكّرنا أن القيمة الحقيقية تُقاس بالصدق، بالجهد، وبالدفء الإنساني الذي يُحدث فرقًا في روحٍ واحدة.

 تحديات لا تَظهر للعين

أصعب ما يواجهه موجه المجموعات لا يُذكر في التقارير.

إنه ذلك الإرهاق الخفي الناتج عن العطاء المستمر دون مقابل مادي أو معنوي كافٍ، عن العمل في ظل قلة الموارد، وسط أنظمة تعليمية لا تزال تنظر إلى الإعاقة بمنظار “الاحتواء” لا “التمكين”.

هو يقف في مساحة رمادية بين التربوي والمعالج، بين المربي والمرشد النفسي، دون أن يجد دائمًا اعترافًا بدوره.

ومع ذلك، يختار أن يستمر، لأنّه يعرف أن الرسالة لا تحتاج تصفيقًا… يكفي أن تترك أثرًا في قلب من ظنّ يومًا أنه غير مرئي.

 الإنسان المختلف… مرآة إنسانيتنا

من يتعامل مع الشباب والصبايا من ذوي طيف التوحد أو الإعاقات التطورية، لا يعود كما كان.

فهم يكشفون لنا هشاشتنا وجمالنا معًا.

هم يعلّموننا أن الحياة ليست سباقًا، بل إيقاعًا داخليًا، وأن لكل إنسان طريقه الخاص إلى الفرح والفهم.

في عالمٍ يقدّس الإنتاجية، يذكّروننا بأن البساطة والصدق هما أرقى أشكال الوعي.

وفي زمنٍ نُقيّم فيه البشر بما يملكون، يثبتون لنا أن القيمة الحقيقية فيما يُشعّ من القلب حين يُحبّ دون شروط.

 بين العزلة والمجتمع

تحدي الموجه لا يقتصر على المجموعة فحسب، بل يمتد إلى المجتمع ذاته.

كيف نقنع الناس أن ذوي التوحد أو الإعاقات الذهنية ليسوا عبئًا، بل فرصةٌ لإعادة تعريف معنى الإنسانية؟

كيف نربّي جيلاً يرى فيهم شركاء لا حالات؟

المجتمع الذي يحتضن الاختلاف لا يفعل ذلك بدافع الشفقة، بل بدافع الوعي.

فالإدماج ليس شعارًا يُرفع في المؤتمرات، بل سلوكٌ يومي يبدأ من الفصل المدرسي، من نظرة احترام، ومن إيمانٍ بأن كل إنسان له دوره في المنظومة البشرية الكبرى.

 موجه المجموعات… بطل الظل

هو لا يظهر على الشاشات، ولا يتصدّر المنصات، لكنه يصنع الفرق الحقيقي حيث لا تراه الكاميرات.

هو الذي يزرع الثقة في القلوب المرتبكة، ويحوّل لحظات الانعزال إلى تواصل، والارتباك إلى انسجام.

هو الذي يدرك أن ما يزرعه اليوم من صبرٍ وإيمانٍ، قد يُثمر غدًا استقلالًا، كلمة، أو حتى نظرة امتنان.

هؤلاء الموجهون ليسوا مجرد موظفين، بل رُسل ضوءٍ في عالمٍ يزداد اتساعًا بين العقول والقلوب.

 خاتمة: التعليم الذي يبدأ من القلب

في النهاية، ليست الإعاقة ما يحدّ الإنسان، بل نظرة المجتمع إليه.

وموجه المجموعات هو من يكسر هذه النظرة، لا بالشعارات، بل بالحضور، بالحب، وبالفعل الإنساني المستمر.

هو من يذكّرنا أن التعليم الحقيقي لا يُقاس بالمناهج، بل بالقدرة على لمس الأرواح.

أننا حين نعلّم المختلفين، نكتشف أنفسنا من جديد.

وفي عالمٍ بات أكثر قسوة، ربما يكون هؤلاء الشباب، بصمتهم وصدقهم، الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقّى من إنسانيتنا.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة