هناك من يسألني دائمًا: لماذا تختارين المسرح والكتابة الإبداعية لتعملي مع الشباب والشابات من طيف التوحّد أو ذوي الإعاقات الذهنية والتطورية أو النفسية؟
ويبدو السؤال منطقيًا، لكنه ليس إنسانيًا بما يكفي.
أنا لا أعمل مع "حالات" — أعمل مع أشخاص.
والعالم كثيرًا ما جاءهم من باب النقص:
هذا لا يتواصل كما يجب،
وتلك لا تنظر في العيون،
وآخر يحتاج وقتًا أطول ليفهم.
فيتحول الإنسان إلى تقييمٍ دائم،
وتُنسى الحقيقة البسيطة: أن القيمة لا تُقاس بالقدرة على الأداء، بل بالقدرة على الوجود والحبّ.
المسرح بالنسبة لي ليس تدريبًا على التمثيل،
بل مساحة يعاد فيها الإنسان إلى مركز الحكاية.
من القالب إلى الدائرة
القوالب تحدد، تضبط، تُقيّد.
أما الدائرة فترحّب، تحتضن، تُنصت.
حين أبدأ مع المجموعة، لا أطلب إنجازًا ولا نتيجة.
أقول لهم ببساطة:
"سنروي قصصنا كما نحسّها، لا كما تعوّد الآخرون أن يسمّوها."
الفتى الذي اعتاد أن يُعرّف بأنه "متوحّد" يقول لي فجأة:
"أنا شابّ أحبّ الموسيقى."
والفتاة التي وُصفت بأنها "منطوية" تقول:
"أنا فقط أحبّ الهدوء."
هنا يتحول التشخيص إلى هوية،
والوصمة إلى لغة كرامة.
حين تُبدع الموجِّهة… تُبدع المجموعة
في التوجيه الإبداعي، لا أقدّم محاضرة، بل أفتح أبوابًا.
أمزج بين المسرح والكتابة والرسم والحركة،
لأن التعبير لا يمرّ دومًا بالكلمات.
في أحد اللقاءات سألتهم:
"لو كنتم أبطال فيلم، ما أول مشهد تودّون أن يراكم فيه الناس؟"
قال أحدهم:
"أريد أن يروني دون أن يسخروا."
وقالت أخرى:
"أريد أن أضحك ولا أحد يطلب مني أن أهدأ."
حينها فهمت أن المسرح الذي نصنعه ليس تمرينًا على الأداء،
بل ترميم لما هدمه المجتمع في الداخل.
التوجيه الإبداعي يجعل من كل اختلاف بابًا نحو الضوء:
من يرسم يعبّر، ومن يكتب يُنصت لنفسه،
ومن يرقص يقول ما لا تقوله اللغة.
وهكذا تتحول الجلسة من علاج إلى احتفاء بالوجود.
تبادل الأدوار… تبادل المصائر
أجمل اللحظات حين أقول لهم:
"بدّلوا الأدوار!"
من اعتاد البكاء يصبح القويّ،
ومن كان صامتًا يصبح الراوي،
ومن كان المتلقي يصبح القائد.
في تلك اللحظة، يتعلمون أن الهويّة ليست قيدًا بل إمكان.
المسرح يسمح لهم بأن يكونوا "الآخر"،
لكن دون أن يفقدوا أنفسهم.
هذه التحولات الصغيرة تغيّر حياتهم اليومية:
الأمّ تقول لي لاحقًا: "ابني صار يطلب ما يريد."
والمعلمة تخبرني: "فلانة صارت تتحدث عن مشاعرها دون خوف."
ذلك هو المسرح الحقيقي:
ما يترك أثره خارج الخشبة، في تفاصيل الحياة.
من العلاج إلى الشراكة
أنا لا أحب كلمة "علاج" حين نتحدث عن الفن.
الفن لا يعالج كطبيب، بل يرافق كصديق.
هو لا يقول "سأصلحك"، بل يقول: "سأكون معك حتى تكتشف ذاتك."
حين نستخدم المسرح والكتابة مع هذه الفئات،
نحن لا "نعالج التوحّد"، لأن التوحّد ليس مرضًا،
بل نعالج جروح الرفض والخوف والاختزال.
الفن لا يُحوِّل الإنسان إلى نسخة من أحد،
بل يُعيد إليه شجاعته في أن يكون نفسه.
إنه شراكة بين أرواح تتعلّم من بعضها:
أنا أوجّه، لكنني أتعلم في كل مرة درسًا جديدًا في الصدق.
الدهشة التي لا تُنسى
في إحدى الورش، طلبت منهم أن يكتبوا رسالة لأنفسهم.
كتبت فتاة صامتة:
"اتركوني أكون بطيئة."
كانت تلك الجملة مشهدًا كاملًا:
صرخة ضد عالم يقيس القيمة بالسرعة.
وفي عرضٍ آخر، قال أحدهم أمام الجمهور:
"اليوم لم أخَف من الضوء."
لم يكن يقصد الإضاءة، بل الظهور نفسه.
أن يُرى دون خوف، أن يُصغي إليه الآخرون.
كانت لحظة ميلاد جديدة، لا مشهدًا فنيًا.
لماذا يجب أن يهتم العالم؟
لأن هذا ليس مشروعًا محليًا،
بل رسالة عالمية تقول:
الاختلاف ليس عائقًا، بل مصدر جمال جماعي.
المجتمعات التي تُقصي المختلفين تُفقد نفسها نصف إنسانيتها.
وحين ندمج التوجيه الإبداعي بالمسرح والكتابة،
نصنع نموذجًا جديدًا للدمج القائم على المشاركة لا الشفقة،
على الأصالة لا على المحاكاة.
إنها عدالة فنية وثقافية:
أن نعيد للإنسان المختلف حقّه في الحضور،
لا كرمز، بل كصوتٍ أصيلٍ يضيف إلى تنوّع الوجود.
ختامًا
أكتب هذه الكلمات لا لأُشيد ببطولات أحد،
بل لأذكّر بأن كل إنسان يحمل في داخله ضوءًا ينتظر من يراه.
المسرح لا يصنع المعجزات،
لكنه يفتح الباب لها.
الكتابة لا تغيّر الواقع وحدها،
لكنها تُغيّر نظرتنا إليه.
وحين نجمع بينهما في توجيه إبداعي،
نخلق مساحة لا تشبه الدواء،
بل تشبه الشفاء بالحبّ.
في تلك الدائرة الصغيرة على خشبة المسرح،
يتعلم كل شاب وشابة أن يقولوا للعالم بصوتٍ هادئ وواثق:
"أنا هنا… مختلف،
لكنني كامل."
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency