خلف أسماء القوانين الجميلة تختبئ أحيانًا أخطر الخطوات التي تهدد الديمقراطية وتفتح الباب أمام الفاشية. هذا ما حذّر منه البروفسور ليو كوري، رئيس الجامعة المفتوحة، في مقاله الأخير بصحيفة هآرتس. فقد ذكّرنا بتاريخ ألمانيا النازية، حين سُنّ في أبريل 1933 “القانون لإعادة تأهيل الخدمة المدنية المهنية”، وهو قانون بدا بريئًا في عنوانه، لكنه كان في جوهره أداة لإقصاء اليهود والمعارضين السياسيين من الجامعات ومؤسسات الدولة.
كتب كوري: “خلف قوانين تحمل أسماء جميلة تختبئ في كثير من الأحيان أكثر الخطوات دناءة، تلك التي تؤدي إلى تدمير الديمقراطيات وتشجيع العنف.” هذه الجملة يجب أن تُقرأ اليوم في إسرائيل كتحذير مباشر، إذ نرى محاولات متكررة لسن قوانين تحت شعارات براقة مثل “إصلاح النظام القضائي” أو “تعزيز كفاءة مؤسسات الدولة”، بينما الهدف الحقيقي هو إخضاع مؤسسات الحكم والأكاديميا والإعلام لسيطرة اليمين المتطرف، وإعادة صياغة النظام السياسي بما يخدم مصالح فئة واحدة على حساب التعددية والديمقراطية.
في ألمانيا، كان ذلك القانون بداية انهيار مؤسسة علمية عالمية في مدينة غوتينغن، حيث أُبعدت أسماء بارزة مثل أمي نُوتر ومكس بورن، وتحوّل الحرم الجامعي إلى ساحة لحرق الكتب ومسرح لاعتداءات طلاب نازيين أعلنوا أنهم يتصرفون “باسم الشعب”. تلك اللحظة لم تكن مجرد حادثة عابرة، بل كانت إشارة واضحة إلى أن المجتمع الألماني بدأ يفقد مناعته ضد الفاشية، وأن الأكاديميا التي كانت مركزًا عالميًا للعلم والابتكار تحولت إلى أداة بيد السلطة. واليوم، في إسرائيل، نرى نفس الديناميكيات تتكرر بشكل مقلق: إقصاء الأصوات المعارضة عبر تشريعات تستهدف استقلال القضاء والإعلام، تطبيع خطاب الكراهية الذي يبرر العنف ضد فئات معينة من المجتمع، وتغوّل الجماعات المتطرفة التي تفرض بالقوة ما لم يجرؤ القانون على فرضه علنًا، وتتصرف وكأنها الممثل الشرعي الوحيد لـ”الشعب”.
حين سُئل عالم الرياضيات الكبير دافيد هيلبرت عن حال الرياضيات في غوتينغن بعد طرد اليهود، أجاب بجملة موجزة: “رياضيات في غوتينغن؟ لم يعد هناك شيء كهذا!”. هذه العبارة تختصر مأساة انهيار مؤسسة علمية بأكملها بسبب قانون واحد. وإذا استمرت إسرائيل في هذا المسار، فإننا قد نصل إلى لحظة مشابهة، حيث يُسأل أحدهم عن حال الديمقراطية في إسرائيل فيجيب: “ديمقراطية في إسرائيل؟ لم يعد هناك شيء كهذا!”. القوانين ليست مجرد نصوص قانونية، بل هي انعكاس للقيم التي يتبناها المجتمع. حين تُستخدم القوانين لتقييد الحريات وإقصاء المعارضين، فإنها تتحول إلى أدوات للهيمنة والسيطرة. في ألمانيا، بدأ الأمر بقانون واحد، ثم تبعته سلسلة من التشريعات التي قضت على كل ما تبقى من الديمقراطية. وفي إسرائيل، نرى اليوم محاولات مشابهة: قوانين تهدف إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا، وإضعاف استقلالية الإعلام، وتقييد حرية الجمعيات المدنية. هذه التشريعات قد تبدو للبعض خطوات إدارية أو إصلاحية، لكنها في الحقيقة تفتح الباب أمام نظام شمولي، حيث تُلغى التعددية، ويُقمع النقد، وتُفرض أيديولوجيا واحدة على الجميع.
التاريخ لا يرحم من يكرر أخطاءه. ما بدأ في ألمانيا بقوانين تبدو بريئة انتهى بكارثة إنسانية غير مسبوقة. إسرائيل اليوم تقف على مفترق طرق: إما أن تتراجع عن هذه التشريعات المتطرفة وتحافظ على قيم الديمقراطية، أو أن تنزلق تدريجيًا نحو هاوية الفاشية. إن مسؤولية المجتمع المدني، الأكاديميين، الإعلاميين، والقوى الديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي الليبرالي، واليهود في الشتات، هي أن يرفعوا الصوت عاليًا قبل أن يصبح الأوان قد فات. الصمت في مواجهة هذه التحولات ليس حيادًا، بل هو مشاركة ضمنية في الانزلاق نحو الفاشية. القوانين التي تُسنّ اليوم في إسرائيل ليست معزولة عن السياق التاريخي، فهي جزء من ديناميكية معروفة تبدأ بخطوات صغيرة تبدو إدارية أو إصلاحية، ثم تتحول إلى أدوات قمعية، ثم تنتهي بانهيار الديمقراطية نفسها. التحذير الذي أطلقه البروفسور كوري يجب أن يُقرأ بجدية، لا كدرس في التاريخ، بل كمرآة تعكس واقعًا حاضرًا. إذا لم يتم التصدي لهذه التشريعات والأفكار المتطرفة، فإن إسرائيل قد تجد نفسها في مسار مشابه لما حدث في ألمانيا قبل نحو قرن. الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم، بل هي ثقافة وقيم وممارسات يومية، وحين تُستبدل هذه القيم بالقوانين القمعية والخطاب المتطرف، فإن المجتمع كله يصبح مهددًا. لذلك، فإن الدفاع عن الديمقراطية اليوم ليس خيارًا، بل هو واجب وجودي.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency