الكلمة بين ضرورة التعبير ومسؤولية الموقف

ساهر غزاوي 
نُشر: 28/11/25 00:37

في سياق النقاشات على منصات التواصل الاجتماعي، التي كثيرًا ما تنزلق سريعًا إلى سجالات ومناكفات فكرية وسياسية تنحرف فيها البوصلة عن هدف الفكرة وروح النقاش ذاته، يتبين أن الكلمة –على بساطتها – سلاح ذو حدين، تبني أمة أو تهدم وعيها. فهي، حين تُقال في وقتها وبصدقها، قادرة على فتح أفق جديد، وهدم جدار من الوهم، وتحريك الوعي أكثر مما تفعله آلاف الصرخات. ولهذا فإن الانخراط في النقاش العام ليس ترفًا فكريًا ولا مجرد استعراض رقمي كما يتصوّره البعض، بل ضرورة تفرضها حساسية المرحلة وتحدياتها، وواجبًا يمس وعينا الجمعي وقدرتنا على إدارة خلافاتنا بعقلانية ورشد.

ومن هنا يتقاطع هذا الفهم مع ما يُقال في أروقة القضاء: "الكلمة ليست صوتًا يُسمع، بل دليلًا يُوزن"، فالحقيقة لا تُرجح بالكثرة اللفظية، ولا يُثبت الرأي بصخب النبرة، بل بصدق الكلمة ونزاهة الحجة وطهارة المقصد. ويتردد في المحاكم أيضًا أن "ما يُرجح الميزان في العدالة ليس كثرة الكلام، بل صدق كلمة"، وهي قاعدة نفتقد حضورها في سجالات منصات التواصل، حيث تغيب المعايير الأخلاقية والقيمية، وتعلو الضوضاء، وتختفي الحقيقة وسط الضجيج ورفع الأصوات، مع أن كلمة واحدة صادقة كفيلة بكشف الحق وإسقاط الباطل. 
وانطلاقًا من هذا الإدراك، لا بد أن أؤكد أنني لستُ بمنأى عن النقاشات التي تضج بها المنصات، ولا بعيدًا عن الحوارات المحتدمة في المنابر الإعلامية. ولست أكتب من برج عاجي أو موقع معزول عن الواقع، بل أنا جزء من هذا الاشتباك اليومي الذي نعيشه جميعًا، أصغي لما يُطرح، وأتابع ما يستجد، وأخوض في كثير من النقاشات، وأحيانًا أطرح بنفسي قضايا وأسئلة توسع دائرة الحوار. وما أكتبه ليس ادعاءً للأستاذية ولا حيادًا متعاليًا – معاذ الله – فالبقاء على الحياد خذلان للحق ورضًا بالباطل كما قيل، وقد نُسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله إلى أهل الحياد: "لم تنصروا الباطل ولكنكم خذلتم الحق". ومن هذا المنطلق يأتي كلامي، بوصفه صوتًا يخرج من قلب التجربة ذاتها، من تجربة الاحتكاك اليومي، والاشتباك الفكري، والتفاعل السياسي الذي يفرضه واقع شديد التعقيد، والسعي الدائم إلى استعادة البوصلة وسط ضجيج لا يهدأ. 
ولأنني جزء من هذا الفضاء، فإني – مثل كثيرين – أنفعل أحيانًا، ويتعبني ما أراه من تحريف أو تجريح أو انحراف للنقاش عن مساره. هذا الفضاء الذي وُجد ليكون منصة للرأي والحوار، يتحول في كثير من الأحيان إلى ساحة فوضى تضيع فيها الفكرة وسط الصخب، ويُستغل فيها الفراغ لإسكات الأصوات بدل مجابهة الأفكار بالأفكار، والحجج بالحجج، والدليل بالدليل. 
وعلى ضوء ما تقدم، تبرز الحاجة إلى أسئلة صريحة لا يمكن تجاهلها، حتى لا تضيع الحقيقة، ولا تُقمع الأصوات الناقدة الرافضة للفكر والسلوك المنحرف الذي يترك أثرًا بالغًا على واقعنا ومستقبلنا ووعينا الجمعي. فنحن في نهاية المطاف نعيش في سفينة واحدة لا في قوارب متفرقة. وهنا يبرز التساؤل: لماذا يسارع بعض ممن صدعوا رؤوسنا بشعارات الحرية والتحرر وحرية الرأي والدفاع عن الإنسان، إلى الاحتماء بسلاح الاتهام بالطائفية أو التكفير لمجرد أن أحدًا خالف أفكارهم أو انتقد سلوكهم؟ ولماذا يتحول الاعتراض الطبيعي على آرائهم – حين يتجاوزون حدودهم ويتدخلون في معتقداتنا الدينية وكأنها بلا حرمة – إلى معركة تُشهر فيها سيوف الاتهام لإغلاق باب النقاش ومنع أي نقد أو مراجعة مشروعة؟
ولماذا، حين يُبدي شخص من منطلق الحرص على مجتمعه وشعبه وقضيته موقفًا رافضًا لفكر أو سلوك سياسي يهدد الوعي والقيم والانتماء، يُقابل فورًا بسلاح التخوين والكيد السياسي واتهامات الحسابات الشخصية؟ والعجيب أن بعض هؤلاء يظهرون في صفحات غيرهم وكأنهم "حمل وديع"، ثم يتحولون في صفحاتهم الشخصية إلى ذئاب شرسة لا يوقرون أحدًا ولا يحترمون اختلافًا، وقد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات دون المستوى و"بلطجية رقمية" في الدفاع عن فكر أو سلوك إما انتفاعًا وتلاقي مصالح، أو لأنهم يظنونه خيرًا وصوابًا، وهم يظنون أنهم يُحسنون صنعًا، بينما هو في جوهره أبعد ما يكون عن ذلك.
وهكذا يصبح واضحًا أن مثل هذه الاتهامات ليست دفاعًا عن فكرة، بل محاولة لإسكات كل رأيٍ مخالف مهما كان راقيًا وحضاريًا في لغته. فجوهر المشكلة، في الحقيقة، لا يكمن في الأسلوب ولا في الكلمات المختارة، بل في الموقف نفسه الذي يرفضونه أصلًا وينكرونه على صاحبه إنكارًا عجيبًا، وفي ما يكشفه ذلك من خلل بنيوي في أفكارهم ومساراتهم.
ومن هنا نصل إلى المحصلة أن الحوار الجاد هو خط الدفاع الأول عن حمى الدين والانتماء والهوية، والطريق الأوثق لصون حاضر القضية وصياغة مستقبلها. فحين يضعف مستوى النقاش تتسع الثغرات، وحين يستند الحوار إلى قيم الدين والانتماء، نعيد ترميم سور الوعي ونحمي المجتمع من الاختراق. فهذا السور لا يُقام بالحجارة، بل بالأفكار الرصينة، والنقاش المسؤول، والموقف الواضح الحكيم.
في النهاية، يصبح التعبير عن الرأي واجبًا أخلاقيًا، خاصة في زمن تختلط فيه الأصوات وتتزاحم الروايات، لا ترفًا فكريًا ولا استعراضًا رقميًا، لأن الكلمة تغدو فرضًا حين يتعلق الأمر بالثوابت والقيم. وعندما نُهذب خطابنا ونرفع مستوى نقاشاتنا، فإننا لا نكتفي بدفع التشويه والمناكفات، بل نرسخ وعيًا جمعيًا قادرًا على صون البوصلة وحماية المجتمع من محاولات التشويه والاختراق. وإن كانت من نصيحة أقدمها أولًا لنفسي قبل غيري، فهي ألّا يُقدم أحد على خوض نقاش فكري أو سياسي أو اجتماعي دون امتلاك قدر من المعرفة والإلمام يمكنه من عرض فكرته والدفاع عنها بوضوح واتزان، فغياب هذا الأساس قد يجعل النقاش عبئًا، ويُضعف قوة الفكرة بدل أن يخدمها، بل وقد يجره إلى معركة خاسرة قبل أن تبدأ. 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة