الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 30 / نوفمبر 03:02

لكي نبدأ بمحاربة جادّة لآفة العنف- بقلم:د. الياس زيدان

كل العرب
نُشر: 29/01/10 11:54,  حُتلن: 14:32

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

* لا نُحسد على أوضاعنا كمجتمع من جرّاء ما نعانيه من مشاكل نابعة من سياسات دولة إسرائيل

* نستطيع منع، أو على الأقلّ، الحدّ من الكثير من أعمال العنف إذا طوّرنا مناخًا إيجابيًّا داخل البيت والمؤسّسات والمجتمع

*  الحكمة تكمن في أن نجد التوازن الملائم بين الجهود التي نبذلها لمعالجة تلك المشاكل وبين الجهود التي نكرّسها لمعالجة مشاكلنا الداخليّة

أخشى أن العنف في مجتمعنا لم يكشف كلّ أنيابه بعد. أخشى أن يصبح حمّام الدم الحالي نهرًا يفيض على جوانب هذا المجتمع الحبيب فيقتل الأخضر والأسود والأبيض والأحمر في كلّ رقعة. فيومًا بعد يوم، لا بل ساعة بعد ساعة، يسقط الجرحى والقتلى دونما سبب أو لأسباب تافهة، و"موكب السقوط" آخذ بالتعاظم. يومًا بعد يوم تصبح بلداتنا وحاراتنا وشوارعنا ومدارسنا وسلطاتنا المحلية وبيوتنا وأماكن عبادتنا أقل أمنًا وأمانًا.

العنف ظاهرة عالميّة
وقد يقول قائل إن "العنف ظاهرة عالميّة". وقد تقول أخرى إن "العنف متفشٍّ في كلّ الدولة". وقد يقول كثيرون منّا إنّ "الدولة معنيّة بذلك وهي تشجّع العنف داخل المجتمع العربي"، أو على الأقل هي "غير معنيّة بمعالجته" أو... لنتّفق على أنّ كل ما قيل هو صحيح 100%، فماذا نستنتج؟ علينا، برأيي، أن نستنتج أنّ مهمّة معالجة آفة العنف عليها أن تكون في أعلى درجات سلّم أولويّاتنا. علينا أن نعي، أيضًا، أنّ هذه المهمّة صعبة للغاية، وأنّ "ما حكّ جلدك مثل ظفرك". لكن، ماذا نفعل إذا كان هذا الظفر ملوّثًا ويزيد من حدّة الالتهاب كلّما استعملناه؟! سأركّز في مقالتي هذه على بعض الظواهر في مجتمعنا التي لا تساعدنا على التعامل بنجاعة مع العنف، وإنّما تضعفُنا في وجهه وتزيد منه في الكثير من الأحيان. الظواهر أدناه متشابكة ومتداخلة بعضُها ببعض:

1. العصَبيَّة والثأر في حالات النزاع والقتل: في الكثير من النزاعات التي تبدأ بين فردين، حتى وإن كانا صبيّين صغيرين تخاصما لأتفه الأسباب، تتّسع دوائر النزاع وفق المقولة "أنا وأخوي على ابن عمّي وأنا وابن عمّي على الغريب". وفي حال سقوط قتيل فعلى طرف القتيل أن يأخذ بثأره. والثأر في هذه الحالة يقع على عاتق كل أفراد حمولة/قبيلة/طائفة المغدور. وفي الوقت نفسه يصبح كل فرد من حمولة/قبيلة/طائفة القاتل صاحبَ مسؤولية عن عملية القتل ومهَدَّدًا بالقتل، حتى وإن لم يكن موجودًا في مكان الحدث و/أو كان ضد ما حدث. رغم أنّ هذه الظاهرة منافية لكلّ مبدأ أخلاقي، دنيويّ أو دينيّ، إلا أنّ مجتمعنا ما زال متشبّثًا بها. هذه الظاهرة مريعة، إذ يُقحِم حدث القتل الواحد مئاتٍ، وفي بعض الأحيان ألوف الأشخاص (الصالح والطالح، البريء والمجرم، الصغير والكبير) في دائرة النزاع. فبعد كل حادثة قتل تلفّ بلداتٍ ومناطقَ بأكملها حالةٌ من الخوف والهلع، وتُغلِق المحال التجارية أبوابها، ويصل الأمر، أحيانًا، حدّ إغلاق المدارس أبوابَها تحسّبًا من تفاقم الأوضاع. وإذا كان القاتل والقتيل من طائفتين مختلفتين فعندها "يا عيني ويا ليلي". وحتى بعد تدخّل أهل الخير وجاهات الصلح يبقى الناس "على أعصابهم" لسنوات قادمة.

2. القيادات بين كونها جزءًا من المشكلة وجزءًا من الحل – فاقد الشيء لا يعطيه: القيادات في كل مجتمع تشكّل نموذجًا للشعب من ناحية، وتلعب دورًا هامًّا في مساعدة المجتمع على النهوض وتحقيق أهدافه، وعلى التغلّب على مشاكله. هذا صحيح على مستوى البيت والمؤسّسات والمجتمع. لدينا، وللأسف، الكثير من النماذج "القياديّة" السلبية. فكيف لقيادات منتخبة في سلطة محليّة أن تنادي ضد العنف وهي تتعامل بعضها مع بعض (الائتلاف والمعارضة) بعنف كلاميّ يصل، في أحيان كثيرة، حدّ التشابك بالأيدي. وكيف لقيادات حزبية أن تكون نموذجًا إيجابيًّا عندما يبدأ "ضرب الكراسي" بعد احتدام النقاش في صفوف الحزب الواحد؟! كيف لرجل دين أن يكون نموذجًا إيجابيًّا، وأن يقود مؤسّسة تربوية ضد العنف عندما يتنازع على الملأ مع "أخيه" رجل الدين الآخر من المؤسسة نفسها، ويصل بهما الأمر حدّ إقحام الطلاب والأهالي والشرطة والمحاكم في الموضوع؟! كيف لرجال الدين أن يكونوا نموذجًا يُحتذى به وهم يتقاذفون الصواريخ الكلامية والتعابير النابية خلال "الموقعة" التي تدور بينهم في وسائل الإعلام حول مَن كان البطل في "تحرير باص" عالق في أحد المعابر الحدوديّة.. وكيف.. وكيف؟! في هذه الحالات تخسر "القيادة" مصداقيّتها أمام "المُقودين". فاقد الشيء لا يُعطيه. هذا في أحسن الأحوال. إن سلوكيّات كهذه تعطي شرعيّة للناس، وخاصة للشباب، لأن يسلكوا نفس هذا السلوك العنيف وأن "يتفنّنوا" فيه.

3. سلّم أولوياتنا كمجتمع – بين النقد الذاتي ونقد الآخر: لا نُحسد على أوضاعنا كمجتمع من جرّاء ما نعانيه من مشاكل نابعة من سياسات دولة إسرائيل. الحكمة تكمن في أن نجد التوازن الملائم بين الجهود التي نبذلها لمعالجة تلك المشاكل وبين الجهود التي نكرّسها لمعالجة مشاكلنا الداخليّة. لا يُخفى على أحد أنّنا نولي جلّ اهتمامنا للقضايا المتعلّقة بسياسة الدولة والأكثرية اليهودية تجاهنا. نعم، علينا أن نولي اهتمامًا كبيرًا لتلك القضايا، ونحن تقدّمنا خطوات جبّارة في أساليب نضالنا. إلى جانب ذلك، نحن نواصل التهرّب من معالجة الكثير من مشاكلنا الداخليّة التي تنخر عظامنا لحظة بلحظة. في الكثير من الأحيان تشكّل المشاكل التي نعاني منها لأسباب خارجيّة ورقةَ تين نغطّي بها عوراتنا الداخليّة، متناسينَ أن عدم معالجة عوراتنا الداخلية سيضعفنا في مواجهة الخارج. حتى في حالات القتل تجدنا نميّز بين مَن سقط على أيدي الشرطة أو على أيدي شخص يهودي وبين مَن سقط على أيدي عربيّ آخر. يحظى الأوّل باهتمام أكبر من طرف قياداتنا ومؤسّساتنا وجماهيرنا!

4. بين قول "لا" وطرح البديل: تجدنا في الكثير من الأحيان نعرف جيّدًا أن نقول "لا" لسياسات الحكومة. هذا ممتاز بحدّ ذاته، خصوصًا وأنّ هذه السياسات لا تريد الخير لنا. خذ على سبيل المثال قضيّة "الخدمة المدنيّة"، فمؤسّساتنا المختلفة نجحت في التصدّي لهذه السياسة. لكن، يُسأل هنا السؤال: أين البديل الذي نطرحه كمجتمع من أجل بناء روح التطوّع والعطاء والالتزام الاجتماعي بين أطفالنا وشبابنا؟ وهل كنّا بحاجة أصلا لمخطّطات الدولة لكي نطوّر خطّة شاملة وواضحة للتطوّع في مجتمعنا؟ إذا استمرّ تقصيرنا في هذا المجال فقد تُدفع أعداد متزايدة من شبابنا وشاباتنا إلى الانخراط في مخطّط "الخدمة المدنيّة"، لا لاتفاقهم المبدئيّ مع سياسة الدولة بل لتلبية احتياجاتهم المختلفة.

5. لا توجّه وقائي ولا توجّه علاجيّ: نستطيع منع، أو على الأقلّ، الحدّ من الكثير من أعمال العنف إذا طوّرنا مناخًا إيجابيًّا داخل البيت والمؤسّسات والمجتمع. يمكننا، أيضًا، فعل ذلك إذا عوّدنا أنفسنا وأبناءنا على لعب دور هام في حياتهم وحياة مجتمعهم. تثبت الأبحاث أن التطوّع والالتزام الاجتماعي من طرف الشباب يؤدّي إلى استغلال إيجابيّ وبنّاء لأوقات فراغهم، وإلى بناء شخصيّات قويّة واثقة، وإلى رفع التحصيل العلميّ، وإلى التقليل من العنف. في مقابل ذلك فإنّ الفراغ حليفٌ للعنف. الضجر والزهق حليفان للعنف. الخمول الاجتماعي حليفٌ للعنف. نحن مقصّرون من هذه الناحية تجاه بناتنا وأبنائنا، فالكثيرون منهم يعانون من أوقات فراغ قاتلة ومن شُحّ في البرامج التربوية والتطوعيّة الجديّة. تقصيرنا تجاه أبنائنا مزدوج، فنحن لا نوفّر لهم لا "درهم الوقاية" ولا "قنطار العلاج". هذا الوضع يشكّل دفيئة لزيادة وتوليد ظواهر عنف مختلفة.

6. الهبّات في مقابل الخطط الإستراتيجية: ما يميّز تعاملنا مع المشاكل الداخليّة هو الهبّات الآنية التي تهدف عادة إلى إخفاء لهيب النار، وليس إلى إخماد الحريق كليّا وإعادة تأهيل الجسم المحروق بعد ذلك. فتجدنا، مثلاً، بعد حدوث اعتداء على شخصيّة قيادية أو بعد حدوث جريمة قتْل نخرج بمظاهرة أو نعقد مؤتمرًا، ثم نعود كلاً إلى بيته أو مؤسّسته دون متابعة توصيات مؤتمرنا!

معالجة الظواهر المذكورة أعلاه تشكّل، برأيي، حجر أساس في سيرورة معالجة آفة العنف، وفي الارتقاء بمجتمعنا نحو الأفضل. علينا وعلى مؤسّساتنا مواجهتها بشجاعة، وأن لا نسمح لزهق المزيد من الأرواح الطيبّة. المهمّة صعبة وتبدو شبه مستحيلة في بعض الأحيان. أولسنا أبناء الشعب الذي قال فيه شاعرنا: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر". علينا أن نختار الحياة.
 

مقالات متعلقة