الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 19:02

نايف خوري يكتب: علقة عنترية لمسرح جبينة

كل العرب
نُشر: 06/06/11 11:06,  حُتلن: 11:11

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

نايف خوري:

ماذا يمكننا أن نستفيد من درس في اللغة العربية، قواعدها، تفاعلاتها، شموليتها وتجديداتها؟

إلمام نبيل بالجوانب الموسيقية أسعفه ليضع ويختار الموسيقى والألحان والأغاني الملائمة لكل موقف

نبيل نجح في تلافي القيود المسرحية على الشخصيات، وتمكن من إطلاق حركاتها وتحركاتها بعدم استخدام الديكورات المكانية أو الأحداث الزمانية

عرض مسرح جبينة في حيفا مسرحية جديدة بعنوان: "علقة عنترية بين الفصحى والمحكية" من تأليف وإخراج نبيل عازر.



نبيل الدراماتورغ:
وضع نبيل مسرحيته لكي يبين التمييز الحاصل بين الفصحى والعامية أو المحكية، وذلك استنادًا إلى كتاب الدكتور إلياس عطا الله "وإذا الموؤدة سئلت"، حيث حمل الممثلون هذا الكتاب والذي يقيم فيه الدكتور عطا الله العربية بين التزمُت والانفتاح، بين التشديد والارتياح. ولا أخوض هنا في جوانب هذا الكتاب القيم، ولكني أعود إلى النص الذي وضعه نبيل في عجالة المسرحية التي تبلغ مدة عرضها خمسين دقيقة. ماذا يمكننا أن نستفيد من درس في اللغة العربية، قواعدها، تفاعلاتها، شموليتها وتجديداتها؟ وفكر المؤلف باستحضار عنترة العبسي من غياهب الجاهلية إلى هذا القرن الحاضر الذي قلما نستخدم فيه لغتنا الفصيحة، وإذا استخدمنا بعض مفرداتها فإننا نستهجنها غاية الاستهجان. فكيف غازل عنترة حبيبته عبلة؟ أي لغة استخدمها؟ هل ديوان عنترة يعتبر مقروءًا ويسهل فهمه أم نعتبره كالطلاسم التي نحتاج إلى أمهات المعاجم لفك رموزها؟ وينجح نبيل في إظهار هذه الفوارق بين الماضي والحاضر، وبين المتحدثين بالعامية والفصحى.. وقد أقول إنه كان بوسعه أن يستحضر اللغة الخليط أيضًا، أو المهجنة التي تتلاقح فيها العربية بالعبرية، كما هو الحال في لبنان مثلا بين العربية والفرنسية، خاصة لدى سكان بيروت. ولنتخيل عنترة يستمع إلى عربي من أحفاده اليوم وهو لا يجيد حتى عاميته ويضطر للاستعانة بالعبرية للتعبير عن أفكاره. وهنا ينطبق المثل "شر البلية ما يضحك" تمام التطابق، لأننا سنضحك كثيرًا حتى نقلب على ظهورنا.

نبيل المخرج:
نجح نبيل في تلافي القيود المسرحية على الشخصيات، وتمكن من إطلاق حركاتها وتحركاتها بعدم استخدام الديكورات المكانية أو الأحداث الزمانية، بل جعل الممثلين ينطلقون في شخصياتهم المتعددة بكامل الحرية، ويتقلدون أدوارهم بمجرد تغيير طفيف على الملابس والصوت. حتى الإنارة لم تلعب دورًا في الانتقال بين مشهد ومشهد، ونجح في العبور بين الأزمنة بمجرد ظهور الممثل في ثياب مختلفة. كما تمكن من المحافظة على طبيعة الشخصيات في سلوكها من خلال الأحداث التي جاءت في العرض، ولم ينسَ عنترة أنه عنترة لا في ماضيه ولا في حاضره، لا أمام شيبوب ولا أمام عبلة. وكذلك سائر الشخصيات لشيبوب وعبلة. وقد لعب كل ممثل دوره كما رسمه له المخرج بدقة وأمانة. ولاحظت أن نبيل استخدم الأسلوب التغريبي عن إدراك أو غير إدراك، لكي لا نسرح في مجاهل الماضي، بل ننتبه إلى واقعنا الذي نعيشه ونفكر فيه مليًا وقد نقبله أو نرفضه، أو نسخر منه ونضحك على أنفسنا لأننا نمارس حياتنا كهامشيين، بدلا من تغييره. وكان يستخدم بعض الألفاظ التي يطلقها أحد الممثلين لكي تعود الشخصية إلى واقعها.



نبيل المايسترو:
لا شك بأن هذه المسرحية هي لشخص واحد وهو الكاتب المؤلف والمخرج والموسيقي، وإن إلمام نبيل بالجوانب الموسيقية أسعفه ليضع ويختار الموسيقى والألحان والأغاني الملائمة لكل موقف، بالرغم من أن حصة الموسيقى كانت ضئيلة بالنسبة إلى الحجم الكلي للمسرحية. وأشغل المايسترو ممثليه برقصات وحركات إيقاعية عبرت عن طراد الخيل والهجوم في الغزوات والكر والفر وغيرها من المواقف. ولم ينحصر الذوق الموسيقي بالأنغام والألحان والأغاني بل تعداه إلى اللغة وخاصة الشعر، وحرص على إلقاء الشعر بموسيقى تناغمية وتفاعلية، لإبراز الجوانب العاطفية والمشاعر التي يحملها كل بيت شعري لصاحب المعلقة. وأكثر من ذلك، حتى أنه أرغم المشاهدين على احترام الكلمات غير المألوفة في الغزل، حين تغزل عنترة بعبلة. وإذا كنا قد ضحكنا فذلك لأننا لا نفقه لا المعاني ولا استخدام هذه الكلمات في محلها الصحيح. فالشعر موسيقى والموسيقى شعر تتداخل إيقاعاتهما لتناغش القلوب وتخاطب النفوس.

الممثلون:
هم ممثلون ثلاثة، وسيم خير، يسرى بركات ومحمود مُرة. لم يصادف أني رأيت أعمالهم المسرحية، وهذا ليس نقيصة بل يعود إلى الظروف، وربما يظنهم المشاهد ممثلين هواة، أي لا يحترفون مهنة التمثيل، وإزاء كل هذا فإن الفرق بين الهاوي والمحترف هو أن المحترف يتقن ويجيد أداء دوره متى يشاء، ويقوم بعمله في التمثيل بالصدق والانفعال كما هو مطلوب كلما عرض عمله المسرحي. أما الهاوي فإنه يؤدي دوره كما يجب وبإتقان ربما أكثر من المحترف. وفي "علقة عنترة" ظهر الممثلون بمهارتهم كمحترفين يجيدون أدوارهم ويتقنون حركاتهم ببراعة وإتقان. واستطاعوا أن يقنعوا الجمهور بأدوارهم المتعددة والكثيرة جدًا وكأنهم يمارسون التمثيل ليلا ونهارًا. ومن الأمور الصعبة على المسرح عندما يقنع الممثل جمهوره بأنه يلعب أكثر من شخصية ويتقنها فيتقبلها هذا الجمهور بمحبة ورضا. وكان الانتقال بين الشخصيات لطيفًا دمثًا، خفيف الظل ومحببًا. ولكن لي ملاحظة للممثل محمود مُرة بضرورة ممارسة التمارين على نَفَسه ومخارج الحروف والكلمات، لأني لاحظت بأن نَفَسه القصير لم يسعفه في لفظ بعض الجمل الطويلة وخاصة أثناء إلقاء الشعر، وذلك بالرغم من أن صوته يليق بشخصية عنترة التي لعبها بإتقان. وهنا أتطرق إلى وسيم خير الذي استغل ليونة جسمه في خدمة الدور وإتقان الأداء، ولا تقل عن ذلك يسرى بركات التي تنقلت بين الشخصيات كعصفور غريد ينتقل بين أغصان شجرة هذه المسرحية، التي لولا بعض الهفوات الطفيفة لأدخلت مسرح جبينة في "علقة" فعلا.

الخلاصة:
 
إن استحضار شخصيات من التاريخ والزمن الغابر ظاهرة مارسها الفنانون والمبدعون على مختلف فئاتهم وأنواعهم منذ زمن بعيد. وشاهدنا عروضًا سينمائية متعددة التي أحضر فيها المخرج شخصيات عظيمة وقادة عسكريين من الماضي السحيق ليعيشوا في هذا الزمن وهذا الأوان، فكانوا يتصرفون كوميديًا ويدمجون مفاهيم الماضي بعادات الحاضر، وظهر ذلك في مسلسلات وأفلام أجنبية وعربية، وأما على المسرح فقد عرضت مسرحيات مختلفة على مر العصور وتم فيها عرض شخصيات لعبت دورًا في غير عصرها. ومحليًا فقد فعل ذلك مسرح الفرنج في الناصرة في مسرحية "إبن خلدون" التي أخرجها هشام سليمان عام 2008، وجعل إبن خلدون يقف على خشبة المسرح ليقضي في الناس ويفصل بين المتخاصمين أو يحل مشاكلهم بمفهوم ومنظار كان سائدًا ومتبعًا في عصره. وكتبت الأديبة ميسون أسدي قصة بعنوان "فضائي في الدير" حيث استحضرت رجلا من الفضاء الخارجي إلى دير الأسد ليطلع على أحوال السكان اليوم ويقارنها بالأوضاع المتقدمة والمتطورة التي يعيشها سكان ذاك الفضاء.
وها هو نبيل عازر يدخل في المعركة الحتمية بين عنترة وعبلة، وبين الفصحى والعامية. وقد وضع البروفيسور سليمان جبران كتابًا بعنوان: "على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة، دعا فيه إلى اتباع التجديد في اللغة لأنها لغة حية متفاعلة وعلى الناطقين بها أن يكيفوها لمقتضياتهم، لا أن يتقوقعوا في قواعدها وكتابتها وألفاظها. ويقول البروفيسور جبران إنه من غير المفضل استخدام كلمة "فصحى" للغة لأنها تعني المقارنة لمدى فصاحتها، بل من الصواب تسميتها "معيارية"، أما العامية فإن معظم العرب لا يتكلمون بلغة عامة واحدة، ولذا من الصواب تسميتها "محكية". وكذلك نبيل يسعى هنا إلى المصالحة بين الفصحى أو المعيارية العنترية وبين عاميتنا السوقية المحكية بهدف المحافظة على لغتنا وتراثنا وكياننا ووجودنا.

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخل ضمن زاوية منبر العرب.
لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.co.il

مقالات متعلقة