الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 30 / نوفمبر 05:02

نبضة انتظار/ بقلم: هدى ناصر

كل العرب
نُشر: 17/05/15 22:01,  حُتلن: 07:36

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

اقفرار يبسط نفسه، يتمدد، ينبطح بجانبها بلا حياء.. احتدام يحرثها بلا كلل ولا يتراجع حتى تندثر.. جليد غير مائي وغير مرئي يأبى ان يذوب، يغطي سريرها، تشعر به يلسعها، يجمدها و يشلها .. صمت لزج حط رحاله في الغرفة منذ اشهر لا يشوشه سوى صوت طفلها النائم... متشرنقة بلحافها تستجدي نومة تقصيها عن عالم معطوب مدبب .. تتلمس غيبوبة برهة تسرقها من نفسها التي لا تكف عنها وتصر على اقحامها في لجج من التفكير وفي كومة من الخيارات والقرارات.

وهي على شفير التمزق تحاول لملمة نفسها ووقف تذبذبها ، لكن كل شيء يعاندها ،يستنزف لآخر قطرة طاقتها على الاحتمال ، يتركها معلقة بين هركلة الوقت وهرطقة البشر و يتواطأ لإسقاطها وهي تقاوم بشراسة ، تقاوم الزمن بالاحلام والاحلام بالزمن ، تقاوم الناس و تقاوم نفسها التي مازالت شابة في السابعة والعشرين تتوق لعيش حياة اكثر استقرارا واتساقا، ممتلئة بالطيش والمرونة انما ليس بقدر امتلاء حياتها بزخم الروتين والهموم الملقاة على عاتقها بلا معين .

تجتاحها موجات من الحنين والشوق للسابق تأكلها.. تجردها من واقعها الذي تبدل ليكشر عن انيابه ويصبح اكثر قسوة وتطرفا ..

تحتاج ان تكون هي .. تلك الفتاة الحالمة الواعدة ..تحتاج ان تكونها من جديد، ان تكون بقدرها و متفائلة ومقبلة على الاقل ليس لاجلها بل من اجل ابنها ..

تستذكر لحظاتهما معا ، تستذكر اشدها حميمية ودفئا .. تتقطع اشتياقا ولهفة ..تصطخب الحيرة داخلها فيما تنزل الدموع .. كيف هان عليه ان يتركها هكذا ؟ كيف ؟ لا يمكن ان يكون هذا صالح الشاب الملتزم ،المتدين، المتفهم و صاحب المبادئ ، الشاب الذي خطب شراكتها وطلبها شريكة الحياة ، الشاب الذي حلمت واياه بتأسيس بيت واسرة تقوم على تحقيق الهدف الاسمى للوجود..

لا يمكن ان يكون هو ذاته الذي ما ان حملت وولدت وفرحا بصبيهما حتى تاهت اولوياته ورحل ليعود كنزيل في فندق وغريب في منفاه بضعة اسابيع ليذهب من جديد الى حيث يعلم الله ..

وكأنها هي وابنها لا يحتجانه سوى تلك الاسابيع التي يقضيها بينهما لتعود المياه لمجاريها فيلبس هو عمامته ودشداشته البيضاوان ويختفي وترجع هي الى يومها تغرف منه التعب.. ينهال عليها العمل في النهار وينتهي باصطحاب ابنها من عند جدته.. بضع ساعات يملأ نفسها بروحه الطاهرة ويبدد صمت البيت بلهوه وصوته الذي يطربها وينام .

مع انها اصبحت ترجع الى البيت مرهقة لا تكاد تراه الا ان وجوده في حياتها هبة تشكر واهبها عليها كل يوم .. لولاه لفقدت حياتها الجانب المشرق المتوهج فيها..

حين اصيب بالتهاب رئوي و أخذته الى المشفى واخبروها بان حالته خطرة احست ان العالم كف تماما عن الوجود..

مجرد التفكير باحتمال الفقد روعها و نكأها، لحظتها احست كم احتاجت رجلها بجانبها يشد على يدها برفق، يحتضنها ويصبرها على مصابها ويهمس في اذنها بانه هنا معها دوما ..

واخيرا ينتهي يومها ، تنتهي المعركة و ترتمي كالقتيل وتنام ، إلا الليلة النوم يجفوها ويأبى المساس ..

وهذا كله لأنه يلح ، يلح بشكل جنوني .. امطرها بالرسائل والمكالمات.. يريد كلمة منها ، يريد قرارا ولا مجيب..

بدأ كل شيء حين عاد زوجها ذات مساء و كانت قد أنامت الطفل ، صلت العِشاء ، حضّرت العَشاء ، بدلت ملابسها ووقفت تتزين امام المرآة ..

حين دخل وسحبها وطلب منها الجلوس قبالته توجست جللا من الجدية المرتسمة على وجهه وقال بعد صمت مخيف :

انت تعلمين ان الله لم يخلقنا عبثا .. لم يخلقنا لنجلب الاموال ونتزوج ونتكاثر وفقط
هذا ليس الهدف .. لم ولن يكون .. الرسالة التي وصلتنا من الرسول صلوات الله وسلامه عليه من اجل ان يحيى البشر الحياة الطيبة التي يريدها لهم خالقهم بالطريقة الصحيحة التي تضمن لهم سعادتهم ..ولكن هناك الكثير من الناس الغافلة والجاهلة سعادتها والمعنى الحقيقي للحياة والكيفية الحقيقية للعيش ..

قاطعته بحيرة:

لكن ما سبب هذا الحديث الان ؟ تحدثنا كثيرا وتناقشنا كثيرا واعتقد ان لا خلاف فما حاجة هذا الكلام؟!
اصبري قليلا آتيك... لذا من الضروري ان نوصل الرسالة لمن ضل عنها ، من سيفعل ذلك اذا لم يكن نحن ؟ ومنذ فترة وانا اخرج انا ومجموعة من الشباب ندعو الى الله في المدينة وسيخرج بعضنا الى احد الدول النائية عدة اشهر لتأدية الواجب الدعوي هناك .. وسأكون من ضمنهم ..
ماذا ؟ لماذا ؟كيف ؟ لم افهم لماذا ستسافر ؟! ستتركنا؟ ستتركني؟!
ما بالك؟ سأعود .. كل المسألة بضعة شهور فقط
كم هي سهلة كلمة بضعة شهور..
كل شيء في سبيل الدعوة يهون وساترك لك ما ادخرت ولديك عملك ..
ولكننا اتفقنا ان اتركه لأتفرغ للطفل !
لا بأس .. ما جدوى الحياة ان لم نعمل؟ تحلي بالصبر ان هذه الدنيا فانية ..
انهضها ومشيا الى غرفتهما ، قالت له وهي تتفتت :
لا تطل الغيبة ! ارجوك
حاضر حبيبتي ...حضري لي الحقيبة !
لكنه عندما عاد .. عاد بغير ما غادر .. فهو غادر ليعود والان يغادر ليستمر في المغادرة ..
حمل لها و لابنهما ما شاء الله ان يحمل من هناك ولكتها لا حظت وهي الخبيرة به انه تغير .. لم تعد بضعة اشهر .. تكاثرت حتى اصبحت اياما لا تحصى ..
وكلما حاولت ان تناقشه تحاججه تهرب او اسمعها اجابة لا تجيب على أي من تساؤلاتها المستنكرة لكنها تُدوّخ امة.
ومع الايام والاشهر والسنين التي تمر .. احست انها تُجتر وتُهرق لتصبح مجرد انثى يعود لها ذكرها حين ينتهي من تجواله .. انثى لا تستحق ان يمكث معها ولا مع ولدها باسم اسماء عدة واختزل حقوقها وولدها بادعاء ان البركة الحالة من السماء ترزقهم اشياء مكدسة على باب البيت..

رسمت بمثالية مطلقة طريقها لا حيد عنه واختارت بناء عليه شابا بدى مثاليا ما ذنبها ان الذي اختارته تغير وخرج لينساها؟! وتخلى عنها وهي في امس الحاجة اليه ليجمع حسنات تهطل عليه ..وهي تجابه مجتمع بأكمله وحياة كاملة .. وحيدة ينهشها الجميع..

والان تَعَرُّض زميلها لها بالعمل يشلها ، ماذا تفعل ؟..
في لحظة ضعف بشرية تنازلت واعطته رقمها وها هو الان يغرقها ..
أ حقا عمر راغب في الزواج منها ام يعبث فقط ؟
هل يعتبرها فعلا بلا زوج ؟ لم يبدر منها أي تصرف يدل على ضجرها وعبثها وكانت تظن ان مظهرها قد يدفع عنها السوء و ظن الظانين ، هي لم تتحدث معه الا بحدود العمل وكان دائما بالنسبة لها كأي رجل اجنبي عنها فماذا حصل ؟!
زعزع طلبه امنها الداخلي واستسلامها المُسَيّس بالاكتفاء بنصيبها ..يريد زجها في مغامرة لا تعرف لها عواقب ولا شواطئ نجاة..

تهرب وتتقهقر فيرجعها المنطق ..

لا يمكنها ان تستمر هكذا وها قد برزت احتمالات اخرى لحياة مختلفة وربما الافضل الذي طمحت له.

لفرط ماتحيرت .. ما العمل وماذا تفعل .. اين الصواب واين الخطأ .. ما الافضل .. هل بهذا تضمن مستقبلها وابنها ام تسأل عن اناها فقط ؟

همست : يا الهي ساعدني .. الهمني..

قررت ان تنفض الامر من يديها البشرية وتتركه برمته لله الاعلم بحالها والاعلم بما فيه الخير لها ان قدرتها المحدودة لن تستطيع ان تزن الامور بدقة ، لبست ملابس الصلاة واستخارت ربها واستسلمت متيقنة ان ظنها بالله لن يخيب..

استولى سواد حالك على المكان لتجد نفسها تمشي وتمشي وهي لا تدري الى اين، يحتويها درج لولبي تنزل وتنزل الى الاسفل يبدو لانهائيا تدوخ ، تتسطح الارض فتعود للمشي ، تصرخ تنادي وفجأة سطع نوران نور قادم منه صالح زوجها ينظر اليها بانكسار وندم ولا ينبس ببنت شفة ونور اخر قادم منه عمر .. قلبها يدق يتسارع انه هناك ينادي عليها برقة وقد فتح علبة بداخلها خاتم لمحته يلمع ، سارت اليه.. ركضت وحين هم بأخذ يدها ليضع الخاتم في اصبعها.. تحول الخاتم الى جنزير حديدي لاحظت ان شعره اغلظّ واغزرّ وتضخمت يديه ،اصابعه و ذراعه واغمقّ لونه ..

نظرت مذعورة اليه فاذا به قرد ..

صرخت ، ركضت و هربت بلا وعي اليه .. الى النور الاخر.. صالح .

استيقظت متصببة عرقا لاهثة وكان اول ما فعلته بان قامت بمحو أي شئ يمت له بصلة ولم تنسى ان ترسل له "لا" .. كبيرة محملة بكل آيات الرفض ومن ثم كسرت بطاقة هاتفها لتبدأ صفحة جديدة ..

انشراح يغمرها، يسكنها و يقولبها داخله فتنتفخ سكينة وهدوء واطمئنانا ..

حتى لو هو يدعو الناس الى الله ، هي ستدعو الله ان يهديه ..

ستنتظره. أليست الحياة مجرد محطات انتظار ما يلبث ان يخطفنا منها قطار ؟.. 


 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة