الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 30 / نوفمبر 01:01

محمد هيبي يُعانق نجمة النمر الأبيض!/ بقلم: د. بسام فرنجية

كل العرب
نُشر: 21/08/16 10:23,  حُتلن: 11:45

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

الناقد محمد هيبي في روايته الأولى، "نجمة النمر الأبيض"، يبني لبنة راسخة ويرفع أخرى عالية في مسيرة النضال الفلسطيني، فهو يصافح أميل حبيبي وغسان كنفاني ويعانقهما ويستلم الراية منهما ولكنه يتجاوزهما. فرواية هيبي تتجاوز صرخة كنفاني "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟" كما تتجاوز صرخة حبيبي "باقٍ في حيفا". وتمثل رواية "نجمة النمر الأبيض" نهجاً وطنياً متكاملاً على طريق ذاك النضال. 

الرواية على أهميتها الأدبية تكرّس الثوابت الحضارية التراثية والوطنية الفلسطينية من خلال تسليط الضوء على "المنارة" التي هجرها نورها. حتى الطيور التي عشعشت فيها ألوف السنين وبنت بيوتها داخلها تركتها. تركتها مكرهة بعد أن استلبها الأعداء، وتخلّى عنها الأشقاء، وتآمرت عليها الحكومات العربية قبل الأجنبية.

محمد هيبي يقرع جدران الأرض بقوة، يقرع حجارتها ومناراتها، يقرع صخورها وأشجارها كما يقرع صدور ساكنيها، ووجدان خائنيها، ويبقى صامداً في الجليل وفي حيفا، كاتباً ومفكراً، وناقداً، ومناضلاً، يمزق الجدران، ويخدش الحيطان، ويحدث الضوضاء التي لا بدّ من إحداثها من أجل خلق وعي فلسطيني وعربي جديد من شأنه أن يخترق العقل الباطن واللاوعي الساكن كي يحرّكه ويزلزله من أجل تحقيق الحلم والكرامة، ومن أجل تحقيق الوجود الوطني والإنساني والشرعي لشعب مظلوم.
"نجمة النمر الأبيض"، رواية محمد هيبي، هي رواية نضالية بامتياز، تعرّي العقبات والسلبيات والانهزامية الفلسطينية والعربية، وهي صرخة من أجل النهوض من واقع هذا الاستسلام والانبطاح على البطون.

محمد هيبي يغضّ ولا يبكي، ولكنّ القارئ يشعر بأنّاته حزينة مؤلمة ومزمنة ممزوجة بآهات الحنين إلى المستحيل الراهن، وآهات الحسرة على الحبّ الضائع، وتجهش كلماته بأنّات جريحة تبكي البيت المسلوب، والانتظار الطويل المملّ القاتل، انتظار الرجوع إلى المنارة، إلى استعادتها، وإعادة إعمارها. المنارة هي فلسطين، الأرض، الأم، الحبيبة، المرأة، هي الرحم الأولى، الوجود الأول، الحياة الأولى، الدفء، الإنسانية، الكرامة، الحرية، الاستقلال، الحياة الآخرة.
محمد هيبي يستصرخ الأرض والحجارة: "هل ما زالت حجارتك حية تتنفس؟ متى تستيقظ حجارتك وتعود إلى الانتصاب؟ وأين طيور الدوري التي رحلت هي الأخرى؟".
حتى السنونو اختفت. ولم يبق إلّا الفاسدون، ينهبون مال الشعب، ويمنعون تحرّره ويعيقون استقلاله، ويخنقون حرياته، ويحرسون المستعمرة الجاثمة على صدر المنارة.
لطالما نعمت طيور السنونو والدوري بحريتها واستقلالها وكرامتها فوق أرضها. كانت تأتي بيوتها وأعشاشها في المنارة، تطعم صغارها، تغرّد، تغنّي، ترقص لهم ومعهم، تبتهج، تنعم بحياة هادئة مطمئنة كلّها فرح. لكنّها فقدت الأمان، وأجبرت على ترك منارتها، فعصرها القهر، واستنزفها، فرحلت. لقد رحلت الطيور الجميلة عن أرضها التي سكنتها آلاف السنين وغادرتها. ومن بقي منها بقي لاجئاً في أرضه، مهمّشاً في دياره. فوطن الطيور ومسقط رأسها وبيوتها وحجارتها باتت مسكونة بالأعداء، الأرض صارت مسيّجة بالأعداء، وأضحت المنارة التي هي قريبة بعيدة جداً.
رواية محمد هيبي تحبس الأنفاس، وتدخل الوعي، وتضيء المنارة من كل جوانبها، وتسلّط الضوء على الزوايا والأبعاد الخفيّة التي لا تُرى بالعين المجردة، وهي في هذا تختزل المأساة الفلسطينية، وتنشد التمسّك بالثوابت الوطنية وبالكرامة الإنسانية المفقودة، في عصر كهذا، ضاعت فيه الثوابت، وتلوّنت أشكالها، وتلاشت معالمها. محمد هيبي يقف على المقصلة نازفاً دماءه يستصرخ، ويناشد، ويدعو إلى النضال من أجل إعادة التاريخ إلى سياقه الصحيح، والثوابت إلى شكلها الصحيح، ويدعو إلى الانطلاق الفعلي نحو التحرّر والاستقلال، تحرير الأرض وتحرير الإنسان. ونفي العجز وإحراقه.

حروف وكلمات محمد هيبي تتراقص في أعين القارئ، قبل أن تدخل وجدانه، فالرواية ساحرة القراءة، ممتعة الأسلوب، قوية الأفكار، ذات جاذبية خاصة، وما أن يبدأها القارئ، فلا يستطيع أن يتركها من يده حتى ينهيها. ومن علاماتها المميزة، تلك اللغة الشاعرية التي تنساب سلسة في كل جملة، وتلك اللغة العربية المتينة السبك، التي يجيدها الكاتب ببراعة لافتة للنظر، فالكاتب يغرف من بحر، بل يغرف من بحر شعري ولغوي، فهو سيد اللغة، وتأتي الكلمات من قلمه طيّعة سلسة، محبوكة بعفوية خاصة، بأسلوب السهل الممتنع، مما يزيد الرواية جمالاً وجاذبية وسحراً.
محمد هيبي يستفزّ القارئ، والإنسان العربي والفلسطيني، ويصدمه. يصدم العربي والفلسطيني بعجزهما، ويصرخ: متى تتنفس هذه الحجارة من جديد؟
على امتداد الرواية يواصل محمد هيبي الكشف عن عمق مأساة فلسطين ومأساة الخديعة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، وغدر الأعداء وغدر الأشقاء، وغدر الحكومات العربية والغربية. ويتساءل: هل من إنسان عربي حرّ في هذه الصحراء العربية المتهالكة من المحيط إلى الخليج؟ وهل هناك من هو بقادر أن يسير على طريق المنارة؟ بل هل هناك من يجرؤ؟
الروائي يحلّل الواقع الأليم، كل جانب فيه أليم. حتى مهرجانات يوم الأرض في الداخل تحولت الى خلاف واختلاف بين القوى السياسية ولا فائدة منها. صارت ساحة للخطابات ورفع الأعلام وشراب الكوكاكولا. أما الأرض إيّاها في نهاية يوم المهرجان فتمتلئ بزجاجات العصير الفارغة والاكياس البلاستيكية والمحارم الورقية التي تُرمى على الأرض في يوم الأرض.
أما في بلدان عربية أخرى فهم يحتفلون بيوم الأرض بأشكال مماثلة، ومنهم من يحتفل بهذا اليوم بأكل الحمص والكوسا المحشية والتبولة والشاورما.
يمسك الكاتب بخيوط المأساة من كل الأطراف: الهم الفلسطيني والضياع الفلسطيني والذل الفلسطيني الكبير الذي يشمل من تشرّد ومن بقي، والإفلاس العربي والفلسطيني والعجز والخيانة.
إنّ منارة محمد هيبي في الرواية، هي القبلة المقدسة التي لا نستطيع الوصول إليها في هذا الواقع العاجز فلسطينياً وعربياً، واقع يتّسم بالخنوع والخيانة والانبطاحية. ففي ظلّ هذه الأوضاع العاجزة فإن الحلم بالمنارة سيطول، حتى أن النقب البدوي، يقول الروائي، فقد بداوته. حدث هذا بعد أن أخذ لصوص الأرض يزاحمونه على أرضه وقوت ماشيته وأولاده. وهكذا يبقى الإنسان الفلسطيني سجيناً أبدياً داخل أرضه، ويبقى الفلسطيني المشرّد في الشتات مستنزفاً يحمل منارته على ظهره المتعب ويجوب بها شوارع العالم ومستنقعاته ومخيمات لجوئه.
لكن محمد هيبي وهو يستعرض عمق المأساة، فإنّه يستعرضها ليرفضها وليرفض واقعها. هو يدرك جيداً أن هذه المأساة إنما نجمت عن عجز لا لزوم له. ويدرك جيداً أن هذا الوضع لا يمكن أن يدوم، فالساعة بدأت عقاربها تغزو صحراء يوم جديد.
محمد هيبي الذي يحلم بالمنارة، وبامرأة المنارة، يتحقّق حلمه في امرأة المنارة، ويلتقي معها بعد أحلام كثيرة وطويلة، يلتقي معها، ويعطرها وتعطره بأنفاس الحبّ الحميمي الصافي، وتختلط أنفاس المرأة بأنفاس المنارة، وبأنفاس شجر الزيتون الفلسطيني، فامرأة المنارة رائعة الجمال، ناضجة الفكر والجسد، عنفوانها مجبول بملح الأرض وعروق الكروم، أما نهداها المتماسكان الرائعان فهما رمز للتحدي ورمز للثقة بالنفس، يختزلان الجمال الفلسطيني الأنثوي كله، ويعبران عن عنفوان الروح والجسد، فهذه هي امرأة المنارة تتحدّى بروحها وجمالها وفتنتها وجسدها كل شيء، وتنبعث منها رائحة الحبّ الحميم الجريء الممتلئ بمشاعر الصدق الأصيل وبحلاوة المرأة الناضجة والخصبة فكراً وجسداً.
الحبيبة والمنارة يلتقيان: وتقول الحبيبة: إن شيئاً ما يحدث الآن.
إذن، الآن، شيء يحدث. طريق جديد واضح قادم الآن. بداية طريق جديد يختلف كلية عن كل الطرق السابقة. إنّه النضال العملي والفعلي الذي لا بدّ منه والذي يجب أن يبدأ ناسفاً كل الاتفاقيات والمهادنات والخيانات السابقة. وإذ يدعو محمد هيبي إلى نضال حقيقي يعصف بكل جوانب السلبيات السابقة فإنّه يمارس دوره الهامّ ككاتب فلسطيني أصيل في معركة النضال الأبدية. محمد هيبي يمارس دوره الأدبي والسياسي والفكري والثقافي الملتزم بقضايا وطنه. ويريد أن يرسخ الثقافة الفلسطينية في وعي الأجيال الصاعدة في ضرورة حمل راية النضال الفكري والوطني من أجل استعادة المنارة كاملة حرة وطنية كريمة مقدسة.
منارة محمد هيبي هي منارتنا جميعاً. وهي قبل كل شيء أدب خلّاق وملتزم، يحكي حكاية كل فلسطيني مشرّد، كل يحمل مناراته على ظهره، وفوق قلبه، كما يحكي قصة الباقين فوق تراب الوطن الذين يعيشون داخل وطنهم لاجئين. ويحكي قصة الخيانة الفلسطينية والعربية والانقسامات والخلاف والمهرجانات التي لا قيمة لها. إنّ أدب محمد هيبي هو أدب مقاومة بامتياز، وروايته الأولى، هي رواية شديدة الدلالة على ترسيخ الأدب المقاوم الجالب للأمل والسير في طريق جديد ينزع عن التاريخ المعاصر كل عاره.
إنّ خيال الكاتب يرحل إلى المنارة كل يوم، ويحلم بها كل ساعة، بل هو يعيش من أجل العودة إليها، العودة التي يريدها الكاتب، عودة صحيحة فوق الأرض الصحيحة، عودة الحقّ لأصحاب الحقّ، وعودة الذين لا وطن لهم لوطنهم.
إنّ الحسّ الوطني العميق والجارف الذي يتمتع به الكاتب يطغى على الرواية برمتها ويجمل حروفها وكلماتها ويعطينا الأمل بولادة جديدة تقودنا إلى لقاء المنارة لقاء قريباً طال انتظاره. إن كلمات وصرخات محمد هيبي وغسان كنفاتي وإميل حبيبي وابراهيم نصر الله وسميح القاسم وتوفيق زياد ومحمود درويش لم ولن تذهب سدى. وهُم ما كتبوا إلّا من أجل بارقة أمل، والأمل يبقى، والمنارة سوف تضيء ذات يوم ليس بالبعيد، سوف تضيء بأضواء فلسطينية وعربية أصيلة، سوف تضيء حرّة عزيزة وسوف تضيء ذات سيادة وكرامة.

* د. بسام فرنجية - أستاذ اللغة العربية وآدابها في كلية كليرمونت مكينا، كاليفورنيا.

(محمد هيبي يقول: أخي وصديقي، الدكتور بسام فرنجية، ابن يافا، عروس فلسطين، الذي أعتزّ بصداقته، يعيش منذ ولد في المنفى، ويعمل أستاذا للّغة العربية وآدابها في كلية كليرمونت مكينا، كاليفورنيا. أطلعته على إحدى مسوّدات الرواية قبل نشرها، فكتب هذا المقال. له منّي كل الشكر والتقدير).

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة