الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 23:02

وامعتصماه../ بقلم: إبراهيم عبدالله صرصور

ابراهيم عبد الله
نُشر: 19/03/19 12:25,  حُتلن: 15:56

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

تٌقاس قوة الأمم بمدى تمسكها وإيمانها بثوابتها، وبمدى استعدادها للدفاع عنها والتضحية في سبيلها، وبقدرتها على التبشير برسالتها أولا، كما تُقاس بوحدتها الفكرية والسياسية والجغرافية ثانيا، وبعمق استقرارها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتقدمها علميا وحضاريا ومدنيا ثالثا، وبمصداقية هيبتها وقوة ردعها المادي والعسكري رابعا، ومدى مساهمتها في تعزيز القيم الإنسانية، والمنظومات الأخلاقية، والمبادئ الأممية، والعلاقات الإيجابية بين المجتمعات البشرية خامسا..

حظيت امتنا الإسلامية وعلى مدى قرون طويلة بحظ وافر من هذه الصفات التي منحتها شرف القيادة في العالم سياسيا وفكريا وحضاريا ومدنيا، ما كان لها ان تحقق ذلك لولا انها أخذت بأسباب القوة، وسعت بشكل حثيث ودائم لتعزيز القيم الأخلاقية، وتطوير أدواتها المادية، وترسيخ بنيانها السياسي والروحي على حد سواء.. تلك كانت الأسباب التي حققت للامة عصورها الذهبية التي يعترف بها وبإسهاماتها أغلب المنصفين من فلاسفة ومؤرخي ومفكري العالم الغربي والشرقي..
لكن دوام الحال – كما يُقال – من المُحال، فقد أصابت الامةَ في مراحل من تاريخها امراضُ الأمم السابقة، فانحطت بعد ازدهار، وانتكست بعد انتصار، وضعفت بعد اقتدار، وانقسمت بعد وحدة، وذَلَّت بعد عزة، حتى وصل حالها اليوم إلى درك سحيق أصبحت معه بلا قيمة ولا وزن، الأمر الذي جرَّأ حثالات الأمم فوثبت عليها مستبيحة دماءها ومقدساتها واوطانها، حتى أصبح دم المسلم أرخص الدماء، وما المذبحة التي ارتكبها مجرم حاقد وسفاح عنصري في مسجدين في نيوزيلاندا اثناء صلاة الجمعة الماضية، والتي حصدت نحوا من خمسين شهيدا وعشرات الجرحى ، إلا قمة جبل الجليد التي يُخفي تحته الخطر الكبير والشر المستطير!

(1)
كلما اجتاحتنا الاحداث الدموية عبر شاشات التلفزة تنقل الينا احداث القتل الذي استحَرَّ في المسلمين أينما كانوا، هربنا الى التاريخ الإسلامي العظيم الماضي والمعاصر لنستأنس به، ولنجد فيه سلوتنا وملاذنا، ولنستمد منه ثقتنا بأن الضعف في أمتنا طارئ وعابر، وأن القوة والشموخ والعزة والكرامة هي الثابت والدائم وإن غابت شمسه أحيانا لأسباب لا تخفى!
يحكي لنا التاريخ أن رجلا قدم للمعتصم ناقلا له حادثة شاهدها قائلا: يا أمير المؤمنين، كنت بعمورية فرأيت امرأة عربية في السوق مهيبة جليلة تُسحل إلى السجن فصاحت في لهفة: وامعتصماه، وامعتصماه!!!!
فأرسل المعتصم رسالة إلى أمير عمورية قائلا له: من أمير المؤمنين إلى كلب الروم، أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي. لم يستجب الأمير الرومي، فانطلق المعتصم بجيش لَجِبٍ لتحرير المرأة المسلمة ولِدَكِّ عمورية وتأديب قيادتها الخارجين عن حدود الاحترام والتوقير للمسلمين، فلما استعصت عليه قال: اجعلوا النار في المجانيق وارموا الحصون رميا متتابعا ففعلوا، فاستسلمت ودخل المعتصم عمورية فبحث عن المرأة فلما حضرت قال لها: هل أجابك المعتصم، قالت نعم، جزاك الله عني وعن المسلمين خيرا.
لم يكن هذا الحادث الوحيد في تاريخ الامة يوم كانت مهيبة الجانب، فهو يمثل نموذجا لواقع امتد لقرون ابتداء من عهد النبوة والخلافة الراشدة، مرورا بالخلافة الاموية والعباسية، والخلافة الإسلامية في الاندلس، وانتهاء بالخلافة العثمانية التي كانت قارات العالم عموما وأوروبا خصوصا تعرف قدرها، وتحسب لها ألف حساب، وما كان في ذلك العالم حاكم يجرؤ على يطأ على طرف من أطراف الدولة الإسلامية، ناهيك ان ينتهك لها حرمة، او أن يهين لها مقدسا، او يعتدي على واحد من مواطنيها مسلما كان او مسيحيا او يهوديا... فإن فعل، لقي من الخلافة الإسلامية من العقاب ما يجعله عبرة لمن يعتبر!

(2)
نجح الاستعمار الغربي في استخلاص العبر من تجاربه الطويلة مع الدول الإسلامية المتعاقبة، فعمل على وضع خطط جديدة تمكنه من السيطرة على هذه الامة ومقدراتها من جهة، وتَحول بينها وبين ان تستعيد عافيتها وتماسكها الذي كانت عليه فتعود الى الواجهة من جديد كما كانت لقرون طويلة من جهة أخرى.. كانت المرحلة الأولى من خطة الدول المستعمرة اسقاط الخلافة الممثلة لوحدة الامة، وكان بعدها الانهيار الكامل الذي انعكس في تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، ثم إقصاء الإسلام الجامع عن منصة الحكم وإدارة الأمة، ونشر الثقافة الوافدة المعادية لثوابتها، وتسليم السلطة على أشلائها الممزقة (الدويلات الجديدة) لأنظمة لا علاقة لها بشعوبها ولا بأشواقها ولا بتاريخها، تم اعدادها لتكون مخالب الاستعمار وانيابه التي تمزق كل محاولة جادة لعودتها الى واجهة الاحداث العالمية، وإحاطتهم بحلقات حماية من الطفليات التي ارتبط مصيرها بمصير هذه الانظمة من قادة للجيش والشرطة والمخابرات، والاعلام والقضاء ودول الفنانين، فأحكموا الخناق حول رقبة شعوب الامة حتى ما عادت تستطيع التنفس، فكان السقوط المريع الذي تعيشه الامة من المحيط الى المحيط الا من نقاط ضوء قليلة ومحاصرة ما زالت تعطينا الأمل في غد مشرق..
أكثر ما نجح المستعمر في تكريسه في عالمنا العربي والإسلامي إن جعل السلطة الدينية في أيدي طبقة من العلماء جعلت من نفسها مطية للنظام الحاكم تشرعن له ظلمه وجرائمه، وتشكل له سياج الحماية والأمان من ان يطاله مبضع التصحيح والنهضة والثورة..
لذلك لم يعد مفاجئا ما يمكن أن نسمعه بين الفينة والأخرى من تصريحات أو فتاوى لمن يسميهم البعض وبحق (علماء السلطة وعملاء الشرطة)، يخالفون فيها صريح الدين إرضاء للحكام وتسويغا لسياساتهم وشرعنة لجرائمهم واستبدادهم... لقد أدلى هؤلاء بدلوهم المسموم حول ثورة الشباب في عالمنا العربي الذين ثاروا سلميا على عهود من الدكتاتورية والظلم وانتهاك الحرمات وهضم الحقوق والاستئثار بالسلطة والثروة، ينتقمون فيها لإنسانيتهم وبشكل سلمي وحضاري، فلم يجدوا من هؤلاء الا حربا ضروسا، فوصفوهم بما لا يتفق مع واقع الحال، ولا ينسجم مع موروث الأمة من كتاب وسنة معصومة وآراء للعلماء العاملين على امتداد عمر الأمة الطويل ...
أعادتني هذه الفتاوى المدفوعة الثمن من الشرف والكرامة، إلى قضية مهمة تناولها علماؤنا بالبحث الطويل، وأفردوا لها من كتب الفقه السياسي في الماضي والحاضر مساحات بقدر أهميتها، حتى كدت أجزم أنها من الضرورات الخمس في الإسلام (حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال)، بل هي مما يتوقف الإسلام عليه، ولا تتحقق مقاصده السَّنِيَّةُ وقيمه العَلِيَّة إلا به... إنها قضية (الحكم والحكام) في الإسلام، ما لهم وما عليهم، ودور الأمة في محاسبتهم نصحا وإرشادا أو خلعا وإبعادا ...
أعجبني ما قاله الشيخ الجليل (محمد الغزالي) رحمه الله، وهو من طبقة العلماء المجاهدين بالقلم واللسان في عهود الظلم الطويلة التي تعرضت لها مصر كما تتعرض لها اليوم، حول قضية الاستبداد والدكتاتورية وأثرها المدمر في حياة المسلمين: (لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد في أمة ما جريمة غليظة، وأن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع، ولا يستحق ذرة من التأييد، إلا إذا كان مُعَبِّرا عن روح الجماعة ومستقيما مع أهدافها. ومن ثم فالأمة هي مصدر السلطة، والنزول على إرادتها فريضة، والخروج على رأيها تمرد، ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك. إني لا اعرف دينا صَبَّ على المستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم، وأغرى الجماهير بهم والانتفاض عليهم كالإسلام. ولا أعرف مصلحا أَدَّبَ رؤساء الدول، وكبح جماحهم وقمع وساوس الكبرياء والاشتهاء في نفوسهم كما فعل ذلك نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. لقد كسر القيود وحرر العبيد، ووضع التعاليم التي تجعل الحاكم يتحرى العدل والمحكوم يكره الضيم.) انتهى ...
رغم أن التاريخ السياسي الإسلامي قد شهد في أكثر من منعطف تاريخي، مجموعة من الانحرافات السلوكية والانحرافات المنهجية التي تَوَلَّى كبرها سلاطين الجور وعلماء السوء، والتي أودت بالعديد من المفاهيم الإسلامية القرآنية الثابتة، واستبدلتها بمفاهيم انهزامية تضليلية متلبسة بلباس الدين، حتى صار الظلم والفساد والاستبداد قدرا وخيرا لا مرد له ولا فكاك منه، إلا أن شعلة الحق والعدل ظلت متوقدة يتلقفها أحرار الأمة جيلا بعد جيل.

(3)
ملايين الشباب الذي يقودون الثورة هذه الأيام في أكثر من بلد عربي آخرها الجزائر، يجسدون هذه المعاني الإسلامية الرائعة، حيث جمعوا في ثورتهم هذه المبادئ التي لا بد منها لضمان الحقوق الخاصة والعامة: ردع الظالم وكف يده، استنهاض المظلوم ليدفع الظلم عن نفسه، والمشاركة الجماهيرية العريضة لصد العدوان وتحقيق الحرية الفردية والجماعية، والكرامة الوطنية والتنمية الانسانية... إنها مسؤولية مجموع الأمة، فإن هي قامت بما عليها أراحت واستراحت، وإن هي سَلَّمَتْ واستسلمت للظالمين فقد ضاعت وَضَيَّعَتْ... إنهم وبحق حملة الراية التي رفعها القرآن العظيم: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ..)، وحملة الشعار الذي رفعه رسول الله الأكرم صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لانتقمن من الظالم في عاجله وآجله ، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما يقدر أن ينصره فلم يفع ).. ...
ليست هذه الثورات إحياء فقط لما كاد أن يندرس من حقوق الأمة والتي وضعتها فوق الحاكم، حسبما جاءت في دينها، لكنها الدرس الذي يجب أن تتعلمه شعوبنا من المحيط إلى المحيط، في أن الظالم سيفكر ألف مرة قبل الاستفراد بضحيته لو علم أن لسعة من سوط ظلمه إن هي أصابت مظلوما واحدا تجاوبت لوجعه الملايين وهتفت بالدفاع عنه حناجر الجماهير..
شباب الأمة أعادوا لهذا التراث وهذه المبادئ والقيم رونقها وألقها من جديد بعد أن كادت تغيب لعهود طويلة تحت وطأة القهر والاستبداد، حتى أكاد أجزم أن هذه الثورات المباركة ستضع امتنا كلها على طريق الإصلاح ...
لن يكون اليوم كالأمس، ولا الغد كاليوم أبدا.. لقد انكسر حاجز الخوف، وعرفت الشعوب طريقها إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي.. عرفت أن لها حقا لن يستطيع كل إرهاب المستبدين أن يطفئ جذوته إلى الأبد، وإن نجح في ذلك مؤقتا...
 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة