الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 12:01

"حضارة" ناطحات السحاب ووهم الصعود إلى القمر بالقمباز والطربوش/ بقلم: د. نسيم الخوري

د. نسيم الخوري
نُشر: 17/08/19 09:23,  حُتلن: 15:13

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

الدكتور نسيم الخوري في مقاله:

يغدو المجتمع الواحد سواء أكان متآلفاً دينياً ومذهبياً وثقافياً أم مسكوناً بالتربص والخشية والتباعد غير المباح، مجتمعات متعدّدة لا تنوّع فيها، متنافرة، متقاتلة، ينكفيء بعضها نحو أوراق السلف ملتمساً السلامة

تتجهّز أرض سوريا وبلاد ما بين النهرين وخرائب الكثير من دول العرب لبناء الأبراج حيث الزجاج يندثر يوماً نحو جدّه الرمل والألمنيوم يحشو خزائن أصحابه ومصانعه بالمليارات ويسهل إعادة تحويله في حضارة النفايات البشرية. وتبقى الأجيال القادمة من نسخ حلمات الكاوتشوك والركض أو التيه خلف القشور. وتبقى فلسطين جرحاً يصبّ في الإتجاهات كلّها فلا يطمس الكلام الكثير العربي الذي الذي لا يتجاوز في فائدته حبّة بندق مسوسة.

ويستغرق واحدنا للتفكير الهادئ في فصول" الربيع العربي" و"ثماره" المهترئة الساقطة فوق أرض العراق وتونس مروراً بمصر وليبيا وصولاً إلى سورية واليمن، ويندلق نصّه فيضٍاً هائلاً من المعلومات والدراسات والوثائق المتناقضة والإستراتيجيات والحقائق المشوّهة الملفوفة بدموع الخنساء وقد أصابتهم "فيروسات" الإفقار والإكثار من وسائل الخصومات المشرّعة بلا ضوابط.

لنقل في جملة تمهيدية أنّ معالم عريقة من الحضارات القديمة رأيناها تندثر أمامنا في الواقع وعبر الشاشات خلال عقدين ( 2003 – 2019) ، لتبرز بشكلٍ لافت تحوّلات سريعة في بعض المدن العربيّة التي تمسح دماءها وتنظّف ساحاتها من الركام فتكتسي بالأبراج الحديثة تحركش بالسحاب بما يولّد إنشقاقات وفجوات بين النواة والقشرة أعني الحداثة والتحديث. تلك مصطلحات لم تسقط أو تخبو أو تسنفذ بكونها خارجة من رحم التجديد المتحيّر الباحث عن معاني الأصالة الضائعة.
للتحديث ظواهر مستوردة برّاقة بكلّ المعاني والأبعاد مكلفة بأثمانها وهي عرّت الواقع من ملامح الماضي. قد تبدو صادمة للبعض، وقد تجعلك كائناً مقيماً في الفراغ فوق مسايراً عصر الفضاء مرتفعاً فوق حضارتي الماء والتراب معلّقاً لا تعنيك حتّى مهمّة التفكير بالحداثة كمفهوم متجذّر خلف الكشف والإختراع .


الحداثة هي غير التحديث بالطبع. هي تشبه الحلم والشعر والتطلّع الدائم نحو المجهول والإبداع للأفكار والمخترعات القابلة للتحقّق. بهذا المعنى قد نفهم تساؤل الشاعر الفرنسي شارل بودلير:
" هكذا يتحرّك، يركض، يبحث. عمّ يبحث هذا الإنسان الوحيد المزوّد بمخيلة نشطة مبدعة في صحاري البشر الشاسعة؟
إنّه الإنسان الباحث أبداً عن أمرٍ يمكن أن أسمّيه الحداثة"
لا يعني إمتلاك القشرة، في البلاد التي تمطّ أعناقها لتقليد العواصم الكبرى، خطوة معاصرة تكفل التمكّن من النواة/الجوهر. التحدّي قائم في إمتلاك اللب. أنت قد تأكل الثمرة بقشرتها ولحاها وبذورها الصغيرة إن كنت من روّاد الفلسفة الصحيّة السائدة عالميّاً في هذا العصر، وأنت قد ترمي نواتها مع إدراكك بأنّها تختزن الحياة إذا ما رعيتها وعبر هذه الملاحظة أنت قادر، إذن،على خلق الأفكار وتوليد الأجيال والمخترعات الجديدة اللامتناهية في قدريّة الصداقة بين الحياة والموت. هنا يكمن الوصل المتلازم بين الإيمان والعقل.

قد يوقظ هذا التحوّل الشكلي العام في تسابق الأبراج و"الحركشة" بالسماء الدهشة بل البهجة العارمة لدى الكثيرين بسهولة إقتناء "الحضارة" الجديدة وهو يوقظ أيضاً الرفض الكامل لهذه المظاهر المستوردة التي تذكّرهم ببرج بابل فتولّد الغربة والإحباط وكأنّها تقلع التاريخ القوي من جذوره القديمة. يبرز الشكل متقدّماً في ميادين التحوّلات التي يصعب إلتماسها لدى الأفراد والعائلات والمجتمعات التقليدية وأنظمة الحكم الحذرة والخائفة من مظاهر التغيير. وقد يذهب الرافضون إلى ربط الشكل بتهديد المضمون الأنقى التي ترتكز إليه الدول والمجتمعات. وتصبح الأهداف محصورة بالحفاظ على الكلمة الإلهية في نقائها البكر وبراءتها الأولى لدى المندهشين والرافضين على السواء الذين ينظرون حصراً إلى ما تختزنه خلفهما قشرتا السماء والأرض.

هكذا تقوى أزمات التفاعل مع الآخر المحرّض أو المحوّل أو الغريب مهما كان إنساناً أو لغةً أخرى أو آلةً جديدة مبتكرة أو "حضارة" بمعناها الشامل. وأدرج مصطلح الحضارة بين قوسين تدليلاً على قوّة العولمة، محاججاً لفكرة أفول الحضارة كمصطلح عالمي ألفناه ولكنّه دفن بشكلٍ كامل أمام شيوع الثقافات وتفاعلها في عصر التكنولوجيا التواصلية والمعلوماتية ولما تعد به فكرة الحضارة الإنسانية التي عجزت عن توحيد البشر وسلامهم ولو تقاربت ثقافاتها وإختلطت. وتفوح من العلاقات الدولية في القرن الراهن رائحة النفط والغاز والجشع والدماء وسهول الأسواق لمكتشفات التحديث البرّاق بدلاً من إدراك حصيلة التغيير الإنساني المنتظر. إنّها علاقة إفراغ وإقتباس وتشاوف أحياناً لا علاقة تفاعل وتغيير. علاقات إنفعال وردود أفعالٍ لا علاقات تأثر ومصالحة وتبادل خبرات وتجارب. لا الجوهر ببراءته المطلقة المطبقة على الزمان كفيل أو قادرعلى الإجابة عن أسئلة العصور المتلاحقة التي تعمّق المسافات بين الأجيال، ولا الأشكال الجديدة الخارجية في عمران المدن والساحات والأمكنة قادرة أن تراكم الإستجابات لحاجات الناس وتطلّعاتهم نحو المضامين المتطوّرة والتجارب الجديدة ومقتضياتها الفكرية والثقافية على الأقل، بمعنى المأكل والمشرب والملبس والتزاوج والسلوك العام والقدرة على خلع التقاليد التي قد تقيّد المجتمعات. هكذا تبرز الأسباب التي تتوه عبرها المجتمعات وتنقسم الآراء والأفكار وتفتح الأبواب الموصدة بسهولةٍ على التجزئة والتفريق وتوسيع الشقوق وتسهيل الصراعات والحروب. ويغدو المجتمع الواحد سواء أكان متآلفاً دينياً ومذهبياً وثقافياً أم مسكوناً بالتربص والخشية والتباعد غير المباح، مجتمعات متعدّدة لا تنوّع فيها، متنافرة، متقاتلة، ينكفيء بعضها نحو أوراق السلف ملتمساً السلامة، ويضيع البعض الآخر في إجتهادات تنادي على العصرنة، ونغرق جميعاً في السفر الشاق بحثاً عن الهوية الجديدة الضائعة في محيطات الخيبة والدم.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة