الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 30 / نوفمبر 04:01

الزوجة العبرية - لـ ناجي ظاهر

كل العرب
نُشر: 13/12/19 18:10,  حُتلن: 18:12

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency


الاول من ايار 1976، بات منذ زمن بعيد تاريخا لا ينسى ولا يمكن نسيانه في التاريخ الشخصي للفنان التشكيلي، شايف العايف، ابن مدينة الناصرة. ففي هذا التاريخ ابتدأت مصيبة حياته التي ستقضي عليه وعلى حلمه رويدا رويدا، علما انه اعتقد في البداية انها انفراجه حياته الكبرى.. وبابها الاول المفضي الى جنة رضوان.
الحركة تدب في شارع بولس بولس السادس الرئيسي، في المدينة، الاعلام الحمراء ترفرف على عصيها المستقرة على اكتاف الشباب والبنات. اليوم هو بوم العمال العالمي، والناس تتوافد الى الناصرة، عاصمة الجماهير العربية في البلاد، من بلداتها ومدنها المختلفة، من عرابة عكا وحيفا وغيرها، بعد قليل ستنطلق التظاهرة العمالية المظفرة.. الكل يتقد فكرا ويلتهب حماسا.
تنطلق المسيرة، مخترقة الشارع الرئيسي، مسددة وجهتها نحو منصة الخطابة في بيت الصداقة القريب من عين العذراء، تلتقي عيناهما هو شايف العايف بعينيها، هي تلك الصبية الجميلة المليانة الملظلظة المربربة، لقاء العينين يتحول من الصدفة الى القصد، كل منهما، هما الاثنين، يفاجئ الآخر بنظرة حافلة بالرغبة، لتلتقي بنفسي العينين. لقاء العيون يتكرر وتبدا الاحلام بالانطلاق الى اماكن مختلفة، اماكن من عوالم اخرى، مبهرة وساحرة، العايف يشعر انه عثر على بغيته، عروس المستقبل، دون ان يدور لسانه مع لسانها، يتصورها جسدا رائعا، حتى "روبنز" عجز عن رسم مثله، من المؤكد ان هذه الصبية ستكون ذات تأثير في حياته فإما تكون "موديله"، الذي حلم برسمه، واما تكون زوجته وام اولاده. وخطرت له فكرة تتوسط هاتين ، " اما ان تكون الاثنين... الموديل والزوجة" و" واما لا تكون"، قال العايف لنفسه وهو يرسل ابتسامة ذات الف معنى ومعنى نحو فاتنته المنطلقة في المسيرة.
تنتهي المسيرة في بيت الصداقة، تتوقف هناك، يهرع الاثنان.. كل نحو الاخر، تتواصل النظرات، الا انها تتقدم نحوه، حد الالتصاق به غير عابئة بأحد:
-الست الفنان شايف العايف؟ تسأله.
-بلى.. انا هو.. يرد عليها مرفقا رده بابتسامة ومضيفا:
-لكن من اين تعرفينني؟
تبتعد عنه قليلا:
-ولو؟ وهل يخفى القمر.. اته نمتسى بدميون شيلي( انت موجود في خيالي).. كل الوقت رسوماتك امامي. اته متسوي (انت موجود) في وسائل الاعلام بشكل كبير.
يجتاح الفرح الغامر الاثنين، يدور بينهما حديث من وجد ضالته بعد سنوات من البحث، يبدأ حديث بينهما.. لا ينتهي ولا يريد. احدهما لا يحقق مع الآخر، وانما هو يتركه يتدفق شوقا وكلاما. هما لا يفترقان الا بعد ان يتعرف احدهما على الاخر جيدا، يتبادلان العناوين وارقام التلفونات. اهم ما عرفه كل منهما هو انهما متقاربان في العمر، في اواسط العشرينيات من عمريهما، وانها هي من سكان عكا وتقيم مع اهلها في بيت هادئ على شاطئ البحر.
في كانون الثاني من العام التالي 1977، تكون طبخة ارتباط كل منهما بالآخر قد نضجت على نار هادئة، ويختاران كانون الاول، شهر البرد الصارم القاصم، موعدا لارتباطهما بالرباط المقدس، اختيارهما هذا الشهر، لم يكن مصادفة وانما تعمّدا، فقد عافا برد الشتاءات الماضية من حياتيهما، وآن لهما ان يرتاحا.
الامور تمضي كما كان مخططا لها بين الاثنين، بالضبط ودون اي عائق، وتنتقل هي الى بيته القائم في اعماق البلدة القديمة، ليعيشا معا، وليكتشف ان ما بدا مزحة في هذا اللقاء او ذاك انما هو طبيعة لا يمكن تغييرها كما اعتقد الشايف، فهي تنطق خلال حديثها، كما تأكد مائة في المائة، بعد زواجه منها، انها تكرس الكلمة الثالثة لكل جملة تفوه بها تقريبا لكلمة عبرية، في فترة الخطوبة لم يكن يفكر في هذا، كما انه حاول ان يتجاهله بعد زواجه منها، الا ان البعض من اهله واصدقائه لفتوا نظره، الى كثرة الكلمات العبرية في احاديث زوجته العربية، في البداية لم يهتم لهذا الا انه ما لبث وان اعلن لها بصوت منخفض، اليه، فما كان منها الا ان اخبرته ان هذه عادة اكتسبتها من كونها عربية تعيش في مجتمع.. وحي يهودي. تقبل كلماتها بهدوء، متجاوزا عن ملاحظات اخرين. ومتقافزا حولها مقترحا عليها ان يقوم برسمها.
جلست قبالته وشرع في رسمها مدة يوم كامل، تلاه يوم وآخر، فعافت جلستها تلك، وتوجهت اليه نافرة فيه:
-عد متاي اني تسريخة لسبول كول زه؟(حتى متى علي ان اصبر على كل هذا؟)
فربت على كتفها راجيا اياها:
-ترجعي اهوفتي.. اني كمعاط جمرتي.(اهدئي حبيبتي.. انهيت تقريبا).
عندها دنت من اللوحة امامه، وتمعنت فيها كانت المرأة في اللوحة جميلة جدا، الا انها لم تكن هي، فانتهرته قائلة:
-مبين انت براسك ايشه اخرت.(امرأة اخرى).
وقبل ان يرد عليها قالت له بتدلل:
-انت لا تحبني.. شَكران.(كذاب).
انتهت تلك اللحظة الا ان هواجسه الغنية الفوارة، اخذته بعيدا مُشرّقة مغربة، متنقلة بين عكاها وناصرته، وفكر طوال الليل فيما قالته له، متهمة اياه بانه لا يحبها وكذاب ايضا، فخطر في باله انها قد تخونه باحثة عمن يحبها، فجن جنونه، ولم ينم في تلك الليلة الا بعد ان اتخذ قرارا لا رجعة فيه.. مهما كلّفه الامر.
في السنوات العشر التالية كان قد نفذ كل ما فكر فيه، تنازل عن حلمه في الرسم، وفي رسمها تحديدا، واكتفى برسومات عادية تثبت وجوده في عالم الفن، وهو يعرف اكثر من غيره انها لا يمكن ان تحقق له حلما في الدخول الى سجلات الخالدين، لقد اكتفى بصفة فنان.. مقنعا نفسه بان هذه البلاد عقيمة ولا تنجب فنانا حقيقيا، وقائلا لها انه اذا كان سيبدع شيئا حقيقيا فانه لا بد له ان يقوم به ويقدمه الى العالم ان عاجلا وان اجلا. اما فيما يتعلق بزوجته الفاتنة المليانة المظلظة المربربة، فقد نفذ ما قرره ايضا، فقد ولدت له كل سنة ابنة، وقد عزز اصراره على تنفيذ إشغال زوجته بالإنجاب انها لم تنجب ولدا.. يواصل حلمه الفني.
بعد انجاب زوجته ابنتهما العاشرة، بقليل، توقفت واضعة يديها على خصرها ومنتهرة اياه:
- داي(كفى) شايف العايف.. اني لو يخولة لسفول يوتر. ( لا يمكنني الصبر اكثر).
عام 2006 تزوجت ابنته الاخيرة، الصغيرة، وكان ان وجدت بناته سوقا قويا لدى شبان الناصرة، فقد كن فاتنات يشبهن امهن، بل انهن ورثن عنها كل شيء، حتى خلط العربية بالعبرية، وقد ادخل هذا الخلط ازواجهن بنوع من البلبلة، جراء ملاحظات الاهل والاصدقاء، لتبتدئ المعارك فيما بينهم، وبما ان بنات شايف العايف، لم يكن وحيدات في مواجهتهن لأزواجهن من رافضي ادخال الكلمات العبرية بكثرة الى عربيتهن، فقد انتهت كل من خلافاتهن الزوجية.. واحدة تتبع الاخرى، حتى طلقن كلهن، وعدن.. واحدة وراء الاخرى.. الى بيت والديها في اعماق البلدة القديمة.
البقية باتت واضحة فقد تحمل الفنان شايف العايف زوجته العبرية العكية.. اما ان يتحمل الى جانبها عشر مطلقات يملان فضاءه بالكلمات العبرية، فان هذا كثير.. ومن الصعب تحمله.. بل ربما من المستحيل.
 

مقالات متعلقة