الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 22:02

شكرًا لأنك تعاملتي معي كإنسانة مش كحالة/ بقلم: رزان بشارات

رزان بشارات
نُشر: 02/02/20 13:19,  حُتلن: 17:19

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

رزان بشارات:

نعيش في حقل قاحل من بذور الإنسانية والأمان، يحث على زراعة الرأسماليّة والطبقيّة والاستغلال بهدف استثمار الأرض للفساد والثمار المزيّفة التي تقود الى اللامبالاة

يتوافدون الى المستشفى من كل الفئات محملين بالجروح والالم والوجع الجسدي بهدف تلقي العلاج والشفاء السريع والعودة الى نمط الحياة "الطبيعي" دون إدراك للإعصار النفسي الباطني الذي يتداخل مع مشاق الحياة والصيرورة التي يحملها المريض، فيغدو الوقت في تلقي العلاج كأنه كابوس مفعم بذكريات بانت وكأنها اختفت وتبخرت عبر السنين والأيام، لكنها ما زالت حاضرة تتلاعب بالمشاعر والاحاسيس وتسيطر على الأفكار، تُعرقل جوانب الذات الايجابية وتؤدي الى سيطرة مشاعر الخوف، الخوف من الفقدان والخوف من الموت، مما يؤدي الى الضياع وعدم السيطرة على الوضع الحالي، خاصة وانه مرتبط بالهرم الطبقي، وذلك من خلال الطواقم الطبيّة العاملة في المستشفى واستخدامهم لمصطلحات أكاديمية طبيّة معقدة لا يفهمها المريض وأحيانًا يقرر عدم فهمها لتجاهل المصير المحتوم!

ذات صَباح التقيت مسن يبلغ من العمر 80 عامًا بعد ان تلقيت رسالة من الممرضة في القسم ان هذا الانسان مُهمل من قبل عائلته، لا يشارك في تلقي العلاج، صامت، ولديه مخاوف كبيرة. توجهت اليه رأيته شاحب الوجه، نحيل جدا، شعره الأبيض مبعثر على وجهه وذقنه، مستلقي على السرير يحاول جاهدًا رفع جفونه لرؤيتي بعد أن أدرك وجودي، حاول ان يُخبرني انه ليس مريض، وانما المحيط الذي يعيش به يحمل وباء اسمه "الخوف" وهذا يؤلمه جدًا وبحاجة الى فُسحة امل تقوده الى نسيان الحاضر والشعور بأنه مُربط وعاجز ودماغه لا يَعمل ابدًا. عندما انفجرت عيناه بالبكاء كان قَد أكمل الحَديث عن الاستغلال الذي يتعرض له من قبل أعز الناس على قلبه، وذكر أن الحياة على وشك الانتهاء. أضاف خلال الحديث أنه اصبح عاجز وعائلته أصبحت عاجزة ايضًا عن الحديث معه كإنسان حيثُ قال لي بوضوح: " انا انتظر الموت بفارغ الصَبر .. وأترقبه .. أنتظر أن أصعد الى السماء لكي يُدفن جسدي في الأرض".
في يوم آخر من بدايات الاسبوع التقيت امرأة مع اعاقة جسدية تبكي وتصرخ وتلعن حظها، دخلت الى الغرفة وطلبتُ إذن للحديث معها، في البداية استغربتْ ولكن بعد ذلك تقبلت وجودي معها في نفس الغرفة ودموعها تتأرجح على وجنتيها، ولسبب ما أسلوب حياتها المعتاد والتحديات التي مرت بها والقوى التي عملت لتحفيزها خلال السنوات الماضية منذ ولادتها قد نفذت ولا تكفيها الان للصمود في مثل هذا الجهاز الجديد الذي يدعى "اكسجين" المرافق لها كظلها كل الوقت. شاركت ان الاعاقة الجسدية لم تكن حاجزا أمامها وانما دفعتها لأن تكون الانسانة الأكثر استقلالية، تعتمد على ذاتها في كل الأمور، حيث ابتكرت لنفسها العديد من الأساليب لنيل حياة محترمة تستحقها وتتلاءم مع قدراتها. اليوم الأمور تغيّرت، عادت الى الذكرى الأولى لها منذ خمسون عامًا عندما كان عمرها خمسة سنوات وكان من الصعب عليها صعود السلالم والقفز واللعب في الحارة وخاصة اللحظة التي لا تمحى من ذاكرتها عندما كانت تتجسس على المحادثة بين والديها والمدير وحين اقترح المدير على والديها نقلها الى مدرسة مختصة للأشخاص مع اعاقات لأن الشعور بأنها مختلفة، عليها لعنة، ناقصة، مثيرة للشفقة من الممكن أن يرافقها مدى الحياة وبذلك عليها الانسجام مع أشخاص يشبهونها. وأكملت: قبل كانت الحرب مع الناس كيف بتطلع ع الاعاقة اسا الحرب مع حالي أصعب"
بعد ثلاثة أشهر عادت إلى المستشفى مبتسمة تطلب رؤيتي لأخباري أنها نَجحت في تحدي ذاتها وقد تقبلت الجهاز المرافق لها "كصديق" وهي في صيرورة للتعامل مع الصعوبات. وعندما انهيت محادثتي معها التي استمرت ساعة تقريبًا قالت لي: "شكرًا لأنك تعاملتي معي كإنسانة مش كحالة"
أهمية العمل الاجتماعي في المستشفى تكمن في الجوهر، في التواصل وفي المُحادثة العلاجية قصيرة الأمد التي تقوم بها العاملة الاجتماعية مع المريض، لمحاولة التحرر من الخوف، والاضطرابات النفسية لإطلاق العنان للذات والمُصارحة معها، بالإضافة الى معالجة الشؤون الاجتماعية مثل العنف الجسدي، والجنسي، الإهمال والعنف ضد العجزة، مرافقة العائلة في أزمة، مساعدات اجتماعية وماليّة، تعبئة نماذج واستحقاق حقوق المرضى مقابل المؤسسات المختلفة، وايضًا رَفع القضايا الفردية مجتمعيًا ومحاولة نَشرها للتغيير والتقدم.
نعيش في حقل قاحل من بذور الإنسانية والأمان، يحث على زراعة الرأسماليّة والطبقيّة والاستغلال بهدف استثمار الأرض للفساد والثمار المزيّفة التي تقود الى اللامبالاة بعيدًا عن الجوهر والانسانية.
ايماننا بالإنسان هو الدافع الأساسي الحقيقي والعادل لمعالجة الأمور بمصداقيّة تامة ومهنيّة عاليّة دون الرضوخ للطبقيّة والمصالح الشخصيّة.

كاتبة المقال: - اخصائية اجتماعية وموجهة مجموعات علاجية

مقالات متعلقة